أحمد فردوس: سياحة الفقراء بمدينة الوليدية "الْمُهِمْ هُوَ يْشُوفُونَا النَّاسْ فِي لَبْحَرْ أُو نْفَرْقُوا الجُّودَةْ عْلَى لِيَّامْ"

أحمد فردوس: سياحة الفقراء بمدينة الوليدية "الْمُهِمْ هُوَ يْشُوفُونَا النَّاسْ فِي لَبْحَرْ أُو نْفَرْقُوا الجُّودَةْ عْلَى لِيَّامْ" الزميل أحمد فردوس ومشهد لشاطئ الوليدية
من المعلوم أن مدينة الوليدية قد ارتبط اسمها اقتصاديا بمختلف المنتوجات الفلاحية والزراعية والصيد البحري منذ كان الفلاح البسيط يزود أسواق دكالة بسخاء قل نظيره، وكان السائح المغربي رفقة عائلته، ينتظر بشغف كبير موسم الصيف لقضاء العطلة منتشيا بالرخاء والطمأنينة والتسلية على جنبات شاطئها الجميل.

في حضن الوليدية، كان يلتقي المواطنون والمواطنات في موسم الصيف بكل فئاتهم وشرائحهم الإجتماعية التي كانت إلى عهد قريب تشكل ما يعرف بالطبقة المتوسطة؛ حين كانت الأجرة الشهرية تكفي الموظف العمومي لتغطية نفقاته اليومية، ويسدّ أغلب ثغرات المعيشة والحياة ومواجهة تكاليف الزمان وتقلباته، والمساهمة بسخاء في تعميم التضامن والتعاون بين سائر أفراد الأسرة والعائلة دون استثناء الأهل والأقرباء.

طبعا كانت الوليدية وشاطئها الجميل وموقعها الرائع تعتبر نقطة جذب ولقاء الوافدين من مختلف المدن المتوسطة التي تعرف ارتفاعا على مستوى الحرارة صيفا، وكانت السياحة الداخلية تساهم بقسط وافر في الحركة التجارية والاقتصادية على جميع المستويات، لكن للأسف الشديد، ومع توالي الضربات الموجعة التي تلقتها "الطبقة المتوسطة"، وبعد الإرتفاع الصاروخي لأسعار المواد الاستهلاكية؛ وتدني القدرة الشرائية؛ وتعميم العطالة داخل الأسر الهشة وبين فئة الشباب المقصي من الشغل، أضحت الوليدية ملتقى سنوي لعرض صور ومظاهر الفقر والهشاشة والبؤس، وليست نقطة ضوء سياحية.

فهل تعلم وزارة السياحة أنه بعد أن كانت مدينة الوليدية ملاذا للسياحة الداخلية صيفا، لم تعد اليوم قادرة على استيعاب قلق السؤال وواقع الحال، واختلت موازين العلاقات الاجتماعية بين المقبلين على الاصطياف، وبين المواطن الدكالي الذي حولته عوادي الزمن من فلاح وكساب وصياد إلى "مستثمر" بئيس يحاول أن يضمن لقمة عيشه في حدها الأدنى عن طريق كراء منزله للراغبين في قضاء العطلة الصيفية، لكن مع ازدياد الطلب وجد البعض الفرصة سانحة لتقسيم منزله إلى وحدات سكنية، والرفع من سقف سعر الكراء اليومي دون معايير منطقية تراعي جودة الغرف والمرافق الصحية، دون الحديث عن تقادم وتهالك التجهيزات المنزلية وتلاشي أفرشتها المتعفنة.

أمام هذا التسيب في نهب جيوب الناس مع سبق الإصرار والترصد، بدوره أضحى التاجر والسمسار، ينتظر اللحظة المواتية لاقتناص فرصة الربح الموسمي في سلعته المعروضة على جنبات الأزقة والشارع الرئيسي وأمام البيوت؛ أما أرباب المقاهي فلا ناهي ولا منتهي، فسياطهم تنهال على الزبناء بالزيادات المهولة في كل طلبات الوافدين على كراسيها، ويسري هذا السلوك المستفز أيضا على الخضار والبقال والجزار وبائعات الخبز والبيض.

المتجول بمدينة الوليدية يلاحظ دون عناء تركيز، كيف يمشي الناس مجموعات تائهة وسط الزحام، دون هدف في الشارع الرئيسي ذهابا وإيابا، وبين الدروب والأزقة الغارقة في الأزبال والنفايات رغم توزيع حاويات النظافة في مجموعة من النقط السوداء.

إن الزائر المغربي والسائح الأجنبي لهذه المدينة التي أهملتها الحكومة والمؤسسات المنتخبة المسؤولة عن جماليتها وتنظيمها ورد الاعتبار إليها، يقرأ على سحنات الناس الوافدين عليها علامات الاستغراب والحسرة، ويرى على وجوههم علامات القلق واليأس إزاء الفوضى والتسيب الذي تعيشه الوليدية صيفا، دون الحديث عن آثار الغلاء الذي طال كل شيء مقابل ما يدخر المواطن البسيط من أوراق مالية بعد حرب عيد الأضحى، فعلا الجميع يمشي ويسير جيئة وذهابا وكأن الناس هنا والآن يفكرون ويبحثون عن وصفة اجتماعية تقيهم هذا الغلاء الفاحش رغم إيمانهم الشديد بالمثل المغربي القائل "فَرَّقْ الجُّودَةْ عْلَى لَيَّامْ"، في سبيل إرضاء مرافقيهم وفلذات أكبادهم الذين يمنون النفس بوجبة دسمة بعد أن أرهقهم اللعب بشاطئ البحر، وزادهم المشي والتجوال إرهاقا وتعبا.

كانت الساعة تشير إلى الثالثة زوالا، والشمس اعتلت كبد السماء، وعلى السور المقابل للمعرض الذي يحجّ له آلاف المواطنات والمواطنين كانت امرأة متوسطة العمر أنهكها المشي تجلس رفقة أطفالها المتقاربين في السن، حيث خاطبها الصغير فيهم بقوله: "مَامَا قْتَلْنَا الجُّوعْ وَالَعْيَا؛ خُوذِي لِينَا غِيرْ خْبِيزْ وَالَحْرِيرَةْ وبَيْضَةْ. مَا شِي مُشْكِلْ. عَارَفَ الطَّاجِينْ غَالِي عْلِينَا" هكذا توسل الطفل الجوعان والدته التي احتارت بما ستجود به على أبنائها الصغار.

وفي حديث تلقائي مع أحد المواطنين داخل محل لبيع الفواكه خاطبني بحسرة وغضب شديدين بقوله: "حتى فاكهة الْكَرْمُوسْ الشّوكي ـ الْهَنْدِيَةْ ـ لم تعد في متناول من ألفوا طعامها اللذيذ، بعد أن كانت تسد الرمق رفقة كسرة خبز، أما فاكهة الْعِنَبْ والدَّلَّاعْ والْبَطِّيخْ والْبَاكُورْ، فقد تجاوزت الحدود على مستوى الأسعار".

أمام هذا الغلاء الصاروخي الذي لا يخضع لأي مراقبة وتتبع من طرف الأجهزة الموكول لها حماية المستهلك، فإن أغلب الأسر الوافدة على مدينة الوليدية، لجأت الى المقاهي المتخصصة في تقديم "لَحْرِيرَةْ الْحَامْضَةْ" والخبز والرغيف والبيض مسلوق. علما أن الحساء لا يقدم إلا كمقدمة في وجبة الفطور أو خلال وجبة العشاء لفتح الشهية على طبق اللحم بالخضر والكفتة المشوية وطواجن الأسماك اللذيذة.

في كل يوم وبعد غروب شمس الوليدية، تخرج أفواج متلاطمة من النساء رفقة أطفالهن، بأزياء صيفية خفيفة، لزيارة المعارض المنتشرة هنا وهناك على إيقاع أصوات موسيقى شعبية صاخبة تغطي على حديث أسراب الزوار الذين يساهمون دون وعي سابق في خلق الاكتظاظ والزحام والفوضى بعد أن احتل الرصيف الباعة الجائلين بمختلف سلعهم، حيث تتجه الأنظار صوب محلات بيع الملابس المستعملة "الْبَالْ" مما يوضح بجلاء أن أغلب النساء يتهافتن على شراء هذه الملابس لأبنائهم وبناتهم لمواجهة الدخول المدرسي القريب، ويشتد في هذه الأثناء وطيس الإشهار بين أصحاب المحلات وهم يرددون بأعلى أصواتهم "يَا للهْ الَمْرَةْ، الصْغِيرْ يَلْبَسْ وَلَكْبِيرْ يَلْبَسْ. لَمْرَةْ تَلْبَسْ وَالرَّاجَلْ يَلْبَسْ ...زِيدُوا الرْخَا وَالرِّبَاخَةْ يَا مَسَاكِينْ".

على سبيل الختم: هل من حكيم من رْجَالْ لَبْلَادْ يشمر على ساعديه ويفتح ملف مدينة الوليدية الجميلة داخل المؤسسات المسؤولة وطنيا وجهويا، ويترافع بإخلاص من أجل رد الاعتبار لشاطئها الرائع ومواقعها الأثرية التاريخية التي لم تعد تحتمل كل هذه التشوهات المجالية.