الدارس المشروع قانون المسطرة المدنية 23-02، لا يملك إلا أن يتساءل، عن الغايات المستهدفة من وراء هذا المشروع بالنسبة لعدد من المواد الواردة فيه، والتي تشكل في نظري المتواضع منكراً حقوقياً، يجافي كل المبادئ الحقوقية والدستورية والقانونية المستقرة قضائياً وطنياً وكونياً، وتمس ضمانات العدالة والمساواة في اللجوء إليها، وفي مقدمتها المادة 17 منه.
وما تجدر الإشارة إليه، هو أن هذا المشروع، افتتح بمذكرة تقديم تضمنت كل المبادئ الحقوقية والدستورية، المكرسة بالعمل القضائي واجتهاداته القارة، مرتكزاً على بعض ما ورد في الخطب الملكية ذات الصلة بالموضوع، منها خطاب 20 غشت 2009، بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، حين دعا جلالته : ((...) الرفع من النجاعة القضائية للتصدي لما يعانيه المتقاضون من هشاشة وتعقيد، وبطء العدالة، وهذا ما يقتضي تبسيط وشفافية المساطر والرفع من جودة الأحكام والخدمات القضائية وتسهيل ولوج المتقاضين إلى المحاكم ... )).
وكذلك ما ورد بخطاب 8 أكتوبر 2010 في افتتاح دورة البرلمان: ((بتأسيس مفهوم جديد الإصلاح منظومة العدالة، يقوم على قضاء في خدمة المواطن)) قريب من المتقاضي يلبي حاجياته بنجاعة وفعالية.
وتضيف مذكرة التقديم، (( وتنزيلاً لأحكام دستور المملكة الصادر في يوليوز 2011، والتي تتلاءم في مقتضياتها مع المبادئ الدستورية المتطورة الرامية إلى الحق في التقاضي، وحماية حقوق الدفاع، وضمان الحق في حكم يصدر في آجال معقولة، وترسيخ مبدأ العلنية، وتعليل الأحكام، والتأكيد على الصبغة الإلزامية للأحكام النهائية في مواجهة الجميع ...)).
وأضافت مذكرة التقديم أنه .... وفي إطار تفعيل توصيات ميثاق منظومة العدالة، التي تؤكد على ضرورة حماية القضاء للحقوق والحريات، وتسهيل الولوج إلى القانون والعدالة، وتوفير عدالة قريبة وفعالة للمتقاضي مع الرفع من الأداء القضائي وتبسيط المساطر، وصدور الأحكام وتنفيذها ...)).
هذه فقرات من مذكرة تقديم مشروع المسطرة المدنية التي وعدت بالالتزام بكل المبادئ الحقوقية في العدالة الإنسانية، ووفاء لما كرسه العمل القضائي المغربي من ثوابت خلال مسيرته الطويلة وهو اختيار محمود، إلا أن هذا التفاؤل الذي خلفته قراءة مذكرة التقديم، تلغيه نصوص كثير من مواد المشروع نفسه مع الأسف، وفي مقدمة هذه المواد المادة 17، التي كرست، لا في مسطرة وضعها في طبعتها الثانية)، ولا في مضمونها، ضرباً لكل المبادئ الحقوقية، والدستورية، والقانونية، والإجرائية.
ومساهمتي المتواضعة، لا تهدف إلى معالجة كل النقائص والمنكرات التي تضمنها المشروع ولكن هذا لا يمنعني من المساهمة بالرأي، مزكياً جل الآراء المكتوبة، والندوات المعقودة، والتصريحات المنطوقة من ذوي الاختصاص، نقباء، ومحامين وأساتذة جامعيين وباحثين، وبرلمانيين، وكل من له دراية واهتمام بالموضوع.
ذلك، أن موضوع المسطرة المدنية، يعني الجميع من المواطن العادي، في السهول والجبال، إلى رئيس الحكومة، إلى رئاسة البرلمان إلى رئاسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بما في ذلك السلطة المدنية والعسكرية حتى ....
حيث لا يجادل أحد بموضوعية، في أن أياً من هؤلاء ممن ذكر، لن يكون يوماً معنياً مباشرة أو بصفة غير مباشرة، بقضية أو قضايا شخصية أو عائلية، مطروحة أمام القضاء، وتجرى عليها نصوص المسطرة المدنية من البداية إلى النهاية.
وعليه، فإن اهتمام المحامين في شخص مؤسساتهم المهنية وجمعيتهم الوطنية، جمعية هيئات المحامين بالمغرب، ليس مزايدة، أو ترفاً فكرياً، أو نزوعاً مصلحياً ذاتياً، بل هو شعور بالمسؤولية واستشراف وترقب لسلبيات المشروع، وما لها من عواقب كارثية، على المواطن المغربي عامة، والمتقاضين بصفة خاصة، وقد يمتد هذا الأثر السلبي، حتى للمستثمر الأجنبي.
وتحسباً لما للمشروع من عواقب، وما خلق من بدع، يكفي عرض ومناقشة المادة 17 منه، التي تعتبر (( منكراً (( يجب العمل على تغييره بالقلم، مادامت اليد قصيرة، ولو أن العين بصيرة، والقلب والعقل في حيرة، أمام هذه الجريرة، دون إزالة نقطة الجيم).
ولن أعود لدواعي عدم شرعيتها، وضرورة إلغائها وسحبها دستوريا وقانونيا، التي عالجها الأستاذ عبد الكبير طبيح، خصوصاً في صيغتها الثانية المعروضة من طرف الحكومة، على مجلس النواب، في الجلسة العمومية، بعدما كانت لجنة التشريع قد ألغتها وتم سحبها، وبإجماع المعارضة والأغلبية وتزكية الحكومة، ورغم ذلك ارتأت هذه الأخيرة، عرضها على الجلسة العامة المجلس النواب التي تبنتها بقوة " الإقناع " العددية !.
فهذه المادة وردت كما يلي : (( يمكن للنيابة العامة المختصة، وإن لم تكن طرفاً في الدعوى، ودون التقييد بأجال الطعن المنصوص عليها في المادة السابقة، أن تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي، يكون من شأنه مخالفة النظام العام.
يتم الطعن أمام المحكمة المصدرة للقرار، بناء على أمر كتابي يصدره الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض تلقائياً، أو بناء على إحالة من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، في حالة ثبوت خطأ جسيم أضر بحقوق أحد الأطراف ضرراً فادحاً )).
فهذه المادة شكلت بصفة استثنائية درجة من درجات التقاضي، لها سلطة مطلقة، دون شروط ولا قيود - لا ابتداءا ولا انتهاءاً - في التشطيب على الحكم، الذي تعتبره مخالفاً للنظام العام، أو شكل خطأ جسيما أضر بأحد الأطراف ضرراً فادحاً.
وما على المحكمة، إلا أن تنقاد مستسلمة للطلب كما قدم إليها، وتصرح بقبوله شكلاً، والاستجابة لمضمونه موضوعاً بصفة آلية ؟؟ !
وإذا كان الأمر كذلك، يطرح التساؤل عن علة أن تطلب النيابة التصريح بالبطلان، إذا كان القرار محسوماً فيه بالنسبة للنيابة العامة، وما دور الجهة القضائية التي قدم لها الطلب، هل فقط، الوضع الختم والتوقيع ؟؟ لأن كلمة ((أن تطلب (...)) تفيد أن جهة قضائية هي التي يوجه لها طلب التصريح بالبطلان، فإذا لم تكن لها صلاحية النظر في الطلب بالقبول أو الرفض، فما فائدة تقديم الطلب إليها مادام ((الطلب)) يحمل نتيجته معه ؟ !.
أما الطعن في " حالة ثبوت خطأ جسيم أضر بحقوق أحد الأطراف ضرراً فادحاً ". فإن المادة 17 من المشروع، قد قررت إمكانية الطعن أمام المحكمة المصدرة للقرار، بناء على أمر كتابي من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، تلقائياً، أو بناء على إحالة من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في حالة ثبوت، خطأ جسيم أضر بحقوق أحد الأطراف ضرراً فادحاً )).
التساؤل الذي يفرض نفسه، هو هل أن الطعن أمام المحكمة المصدرة للقرار، يكون بعد إعلام، أو علم الوكيل العام، لأنه لا يمكن إصدار الأمر الكتابي، إلا بعد أن يكون الحكم بين يدي الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، باعتبار أن القضاء يصدر آلاف الأحكام يومياً في مختلف المحاكم، فكيف لهاتين الجهتين القضائيتين أن تعلم بصدور حكم مخالف للنظام العام، أو ثبوت خطأ جسيم فيه، أضر بحقوق أحد الأطراف، ضرراً فادحاً، خصوصاً وأن أجل الطعن غير محدد، وممتد في الزمن الماضي ؟ !. تلك بعض الأسئلة التي تطرحها القراءة الأولية النظرية للمادة 17 بصفة خاصة، وللمشروع بصفة عامة، والأكيد أن التطبيق العملي سيطرح إشكالات مسطرية وموضوعية، من خلال ما تنذر به القراءات المتعددة للمشروع برمته والأمل معقود على تدارك العواقب السلبية التي يتضمنها المشروع كما هو اليوم.
جلال الطاهر/ محامي بهيئة الدار البيضاء