استطاعت مدينة سلا أن تضمن لنفسها موطئ قدم داخل الخريطة السينمائية العربية والدولية بعد أن بلغ مهرجانها السينمائي دورته الثامنة، وهي التظاهرة التي يقل مثيلها في العالم العربي بالنظر إلى الرؤية القدحية لكل ما يرتبط بالمرأة عموما، والفنانة منها خصوصا، وذلك مع مراعاة فارق التطور الحاصل في هذه الأقطار وحجم النضالات التي قادتها المنظمات الحقوقية والنسائية إلى أن استطاعت المرأة المتعلمة (كي لا نقول كل النساء) أن تتبوأ مكانة مهمة داخل مجتمعاتها ولو بقرارات سياسية تبلورت نتيجة الوعي الذي تشهده بعض الأمصار...
يمكن الحديث عن بعض الفنانات العربيات اللائي برزن في مجال السينما تمثيلا وإخراجا، ونذكر في مجال الإخراج مثلا: إيزة جينيني وفريدة بورقية وفريدة بليزيد وليلى المراكشي من المغرب.. وإيناس الدغيدي وجيهان نجيموحنان عبد الله وكاملةأبو ذكري من مصر.. ويمينة الشويخ وأمينة بن گيگي ونادية شرابيلعبيدي من الجزائر.. ومفيدة التلاتلي وسلمى بكار وكلثوم برناز من تونس.. وشيرين دعيبس وآن ماري جاسر وليلى صنصور من فلسطين.. ونادين لبكي وجوانا حجي توما ورندا الشهال من لبنان.. وهالة العبد الله وريمون بطرس من سوريا.. ولانا ناصر ومريم جمعة من الأردن.. ونايلة الخاجة وعلوية ثاني من الإمارات العربية.. وهيفاء المنصور من السعودية...
يظهر أن الممارسة السينمائية النسائية تعرف الكثير من العقبات، وإن كانت نسبة النساء المُمَارِسَات للسينما في العالم ضئيلة مقارنة مع الرجال، إلا أن مسألة الحريات والرؤية الدونية للمرأة المُتَعَاطِيَّة للمهن الفنية تُهَيْمِنُ على رؤية المجتمع في عمومها، فهم لا يعتبرونها مهنة كباقي المهن، بل يُدْخِلُونَها في نطاق التقييم الأخلاقوي الضيق...
وإذا ما انتبهنا إلى وضع المرأة السينمائية في العَالَم العربي، فإننا نجدها تختلف نسبيا عن مثيلاتها في بقية الدول العربية الأخرى لاسيما في كل من المغرب وتونس والجزائر نظرا للظروف التاريخية التي عرفتها هذه الدول من حيث جو الانفتاح السياسي وكذا الثقافي والاجتماعي الحاصل لدى فئات عريضة من الأُسَر، وهو الأمر الذي انعكس مفعوله على تعليم البنات واقتحام المرأة لمختلف مجالات العمل وقدرة الفتيات على ولوج المهن الفنية والحضور في مختلف الفضاءات العامة...
تتطرق فيلموغرافيا المخرجات السينمائيات في دول المغرب الكبير إلى مختلف الموضوعات المرتبطة بالقضايا النسائية كالهيمنة الذكورية والدين والسياسة والجنس ومشاكل العذرية والإجهاض والإرهاب ووضع المرأة الاجتماعي وحقوقها المتمثلة في المساواة وعدم التمييز.. وقد كان لبعض الأفلام وقع كبير على المستوى الجمالي كأفلام "صمت القصور" [1994] للمخرجة التونسية مفيدة التلاتلي، و"رشيدة" [2002] للمخرجة الجزائرية يمينة الشويخ، و"ماروك" [2005] للمخرجة المغربية ليلى المراكشي.. وهي مشاكل تقترب من مثيلاتها في بعض دول العَالم كما نلمس في بعض عروض هذه الدورة من المهرجان التي شاهد خلالها المتتبعون أفلاما تطرح المسألة النسائية وغيرها من المَحَاوِر ذات الصلة وفق قالب سينمائي متميز أشرف على إنجازه نساء مخرجات، فاستطعن أن يوصلن رسائل إنسانية عميقة دون السقوط في المباشرية الفجة أو الانغلاق الدوغمائي الذي اعتدناه في بعض الأفلام النسوانية، ومن بين هذه الأعمال نذكر ما يلي: فيلم "أربعون يوما من الصمت" للمخرجة الأوزباكستانية ساعودات إسماعيلوفا، و"فتاة أمام بابي" للمخرجة الكورية الجنوبية جولي جونك، و"أنا لك" للمخرجة النرويجية إيرام هاك، و"ماطيو" (Mateo) للمخرجة الكولومبية ماريا كامبوا...
حرص منظمو المهرجان على أن يكون حضور المرأة المغربية خلال دورات هذه التظاهرة عاكسا لمدى التطور الحاصل في الصناعة السينمائية في هذا القطر وفرصة لخلق المزيد من التواصل والتلاقح بين التجارب الضيفة، وذلك خلال جل الفقرات المُبَرْمَجَة، ففي لجان التحكيم حضرت كل من نرجس النجار ونزهة الإدريسي الكوهن وسعاد حميدو وإيمان المصباحي وليلى التريكي وسلمى برگاش وسناء عكرود.. وفازت بإحدى جوائز المسابقة فريدة بليزيد (السيناريو) وهدى صدقي (التمثيل).. وضمن فقرة التكريمات تَمَّ الاحتفاء بحبيبة المذكوري ونعيمة السعودي وفاطمة العلوي وأمينة رشيد وفريدة بورقية.. أما على المستوى العربي فقد عرفت فعاليات الملتقى مشاركة فنانات عربيات متميزات من قبيل يامنة الشويخ وإيناس الدغيدي وكارول عبود وهند صبري وآثار الحكيم وعلي الشافعي وعلياءأراسوغلي.. والملاحظ أن المهرجان في حاجة إلى تعميق الانفتاح على السينمائيات المغاربيات كأفق استراتيجي لمد جسور التلاقي السينمائي بين المغرب والمشرق.
عرفت ندوات المهرجان السابقة والحالية مناقشة تيماتٍ ذات طابع يرتبط بمختلف التجليات اللصيقة بهموم النساء كسينما المرأة وحلم الربيع العربي، وصورة المرأة في السينما النسائية، والفيلم الوثائقي بعيون نسائية، وواقع ومستقبل السينما المستقلة في ظل الطفرة الرقمية.. وهي ندوات تستدعي لحلقاتها النقاد والمخرجين والباحثين كما تركز على حضور النساء كما هو الحال في إحدى الجلسات الموسومة بـ "نظرات متقاطعة لرجل وامرأة حول الانتماء الجنسي في السينما" والتي تضمنت مجرياتها نقاشا شيقا وممتعا بين المخرج المغربي سعد شرايبي الذي تعكس فيلموغرافياه اهتماما خاصا بقضية المرأة المغربية والمخرجة المتميزة سيمون بيتون والموضبة كاترين بواتفان...
أعلنت لجنة تحكيم الدورة الثامنة للمهرجان والتي ضمت إلى جانب رئيستها السيدة عائشة بلعربي كلا من الممثلة المغربية السعدية باعدي، والمخرجة والمنتجة البوركينابية سارة بويين، والمنتجة الفرنسية كارين بلان، وأستاذة السينما البلغارية دينا يوردانوڤا، والممثلة المصرية غادة عادل، والمخرجة اليونانية بيني بانايوتوبولو عن النتائج التالية:
- الجائزة الكبرى للفيلم الأرجنتيني "اللاجئ" لمُخرجته ديكو ليرمان.
- جائزة لجنة التحكيم للمخرجة الأزبكية سعودات إسماعيلوڤا عن فيلمها "أربعون يوما من الصمت".
- جائزة أفضل سيناريو للمصرية وسام سليمان عن فيلم "فتاة المصنع" لمخرجه محمد خان.
- جائزة أفضل دور رجالي للطفل راماسان مينكايلوڤ عن فيلم "الرجل الصغير" لمخرجته النمساوية سودابي مورتيزاي.
- جائزة أفضل دور نسائي للممثلة النرويجية أمريتا أشاريا عن دورها في فيلم "أنا لك" لمخرجته النرويجية إيرام هاك.
هكذا تَنَافَسَ على جوائز هذه الدورة اثنتي عشرة فيلما من إفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية، مع الإشارة إلى انفتاحه المحصور والضيق على السينما المغاربية التي لم تحظر في المسابقة الرسمية لهذه السنة إلا من خلال فيلم "شَلاَّط تونس" للمخرجة كوثر بن هنية والذي تضعنا قصته في صميم أجواء العاصمة التونسية المتوترة خلال صيف 2003؛ إذ يتجول شاب مجهول على دراجته في شوارعها، يلقبونه "الشلاّط"، ويحمل شفرة يضرب بها أرداف أجمل النساء اللائي يمشين متبخترات على أرصفة المدينة.. وبعد قيام الثورة التونسية ستسعى إحدى المخرجات لكشف ملابسات هذه الشخصية المثيرة قصد الإحاطة بما يكتنفها من جدل وغموض.. وذلك ما حققه الفيلم عبر مزاوجته الفنية بين الأسلوب الوثائقي والدرامي.. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحادثة قد كانت مصدر عدة إبداعات شملت الرواية والرسوم المتحركة والكاريكاتير مما يدل على غنى سينما النساء المغاربيات وجرأتهن في التفاعل مع الواقع...
وبذلك يكون المهرجان قد راكم خبرة تنظيمية مهمة لابد من تطويرها - مستقبلا - من حيث الاجتهاد أكثر على مستوى ضَخِّ دماءٍ جديدة في طاقمه الفني ومنشطي فعالياته، وكذا العمل على تنويع مَحَاوِر فقراته، والانفتاح أكثر عن الأفلام التي تشتغل بشكل مغاير على موضوعة المرأة خاصة وأن المهرجانات التي تنكفئ على موضوع محصور سرعان ما قد تصاب بالدوران حول نفسها أو تتقلص الخيارات أمامها مع مرور الزمن.