لماذا تراجعت الواحات المغربية وكيف يمكن أن نحدّ من ذلك؟
تقتضي الإجابة عن السؤالين الأول والثاني دمجهما ضمن إشكال واحد، وهو واقع تراجع الواحات وتدهورها والعوامل التي تكمن وراء ذلك.
كثر الحديث الآن عن الواحات بعد أن كانت موضوع إهمال ونسيان وتهميش، بالرغم من كونها مجالات تحتضن مكونات تراثية مادية وثقافية ذات منظورية أصبحت عالمية بفضل تصنيفات قادت إليها مجهودات نخب تعمل غالبا في صمت وتواضع. وللتذكير، فعالَم الواحات كان عبر التاريخ مصدرا لنخب مغربية، بل لحركات ثقافية ودينية وسياسية نشأت بفضلها دول واندثرت بها أيضا دول. وظلت الواحات أيضا معينا لليد العاملة وللفقهاء إلى عصرنا هذا. فالكل يعلم ولو جزئيا أزمة اليد العاملة وغلق المتاجر قبيل عيد الأضحى وبعده، بسبب طقوس العيد التي تنقل العديد من ذوي الأصول الواحية والجنوبية عموما إلى مواطنهم الأصلية لمشاركة أفراح المناسبة مع ذويهم المقيمين فيها.
ومن منا لا يتذكر دروس التاريخ عن إمارة سجلماسة التي كانت مركزا حضاريا وفلاحيا وتجاريا هاما، والجذور الواحية للدولة العلوية بتافيلالت، والجذور الصحراوية الجنوبية للدولة المرابطية، والموئل الواحي للدولة المرينية بالشرق والجنوب الشرقي من فجيج إلى ملوية، وغيرها من الإمارات المغمورة مثل إمارة المخلوفيين بفجيج…
اندثر العديد من القصور والقصبات ومُسخ الكثير منها أو استبدلت بها أحياء حديثة لا جمالية فيها ولا تراث ولا أصالة، ففقدت الكثير من الواحات رونقها وهويتها وجاذبيتها. لازالت الكثير من الواحات تستقطب سياحا كثر، وغالبيتهم من خارج الوطن، بينما مواطنونا تنطبق عليهم مقولة «مغنية الحي لا تطرب»، حيث الذين منهم اكتشفوا سحر الواحات يظلون القلة القليلة.
أكيد أن ما يُهمنا في الموضوع هو تدهور المجال الأخضر، أي مقومات الحياة والإنتاج الفلاحي، لكن الواحات في الواقع منظومات تتكامل فيها كل مكونات مجالاتها الترابية، وكأنها جسم واحد يحتاج إلى كل أعضائه ليستمر عنفوانه ووهجه وإشعاعه. أصبحت الكثير من الواحات والقصور عبارة عن مجال شبح طاله التدهور وتراجع الاخضرار في كثير من بساتينها التقليدية، وعكس ذلك بدأت ضيعات تنتشر في فضاءات حديثة غالبا معصرنة بتخطيط هندسي وتجهيزات متطورة. والتساؤل الذي يفرض نفسه أمام هذا الواقع هو، ما الذي يحدث ولماذا وكيف؟
أوّل ما يتبادر إلى الذهن، بل يترسخ فيه لدى الكثير من الناس، عامتهم وغير عامتهم، هو الجانب المناخي، وخاصة تغيراته وتقلباته. قبل عدة عقود، كان الجفاف وهو أحد عناصر الطقس والمناخ، بمثابة المشجب الذي يعلق عليه المسؤولون والحكومات فشل سياستهم التنموية، والآن لم يتغير سوى اسم المشجب الذي أصبح يدعى "التغيرات المناخية"، فيما تبقى قلة قليلة تسميه «التقلبات المناخية»، والتي هي الصواب، إذ لا منحى واضح للتساقطات المتذبذبة بين الشح والغزارة، حتى وإن جنحت الحرارة نحو ارتفاع طفيف.
إن عالم الواحات أصلا صحراء، وهو مجال يطبعه عجز مائي دائم ومستديم، يؤطره علميا مفهوم القحولة «وليس الجفاف»، والتي يُعتمد في تحديد درجتها على مؤشرات حسابية تستخرج من معدلات ثلث قرن من قياسات التساقطات والحرارة، وكلاهما منخرطة على التوالي في شح المطر وتبخره. بخلاف الجفاف الذي هو معيش مباشر في الزمان له بداية ونهاية، يُرصد خلاله نقص ملحوظ في التساقطات خلال فترة ما مقارنة بما هو معتاد فيها.
ما نعيشه من قحولة وجفاف ليس جديدا، وإنما هو واقع اعتيادي بلا انتظام، بل بتغايرية تشتد كلما كان المناخ أكثر قحولة. وبالمناسبة، لا بد من التنبيه إلى عدم صحة القول مناخ جاف وشبه جاف، إذ الصواب هو مناخ قاحل وشبه قاحل، ومفرط القحولة أو فرط قاحل، وكلها سمات تخص مجالا ترابيا معينا، بينما سمة الجفاف تخص فترة زمنية معينة وليس مكانا معينا. ويحلو للبعض القول إن الجفاف أصبح ظاهرة بنيوية، وهذا مجانب للصواب لسبب بسيط وهو أن الظاهرة كانت دائما كذلك.
هل تغير شيء ما؟
صحيح أننا نعيش فترة جفاف حاد ومستفحل لعدة سنوات متوالية تجاوزت خمسا أو ستا، غير أن هذا الحدث لا يعبر عن منحى بأي حال من الأحوال، ولا يمكن ربطه وتفسيره بالاحتباس الحراري الذي أضحى بمثابة الشيطان المارد الذي يتحكم بشكل حصري أو شبه حصري في واقعنا المناخي، حسب تصور نظري يفتقر إلى الصدقية والبرهنة العلمية، ليبقى موضوع جدل كبير.
إنّ الظواهر المناخية والطقسية التي نعيشها، مهما تطرفت، تبقى عادية بالنظر إلى طبيعة المناخ التي لا يمكن مقاربتها من خلال رصد جوي لفترة محصورة في بضعة عقود أو قرن أو قرن ونصف، وهي المدة التي تتوفر لدينا عنها تسجيلات منتظمة بأدوات تقنية. مقاربة المناخ تمتد لقرون وآلاف السنين. المناخ الحالي يستمد جذوره من نهاية الذروة الهولوسينية التي سادت قبل 4000-5000 سنة وأكثر، والتي عرفت بمزيد من الحرارة ووفرة التساقطات التي بموجبها كانت الصحراء مخضرة ووفيرة المياه، بمجاريها الدائمة وينابيعها وبحيراتها، وكان للواحات نصيب منها من عيون وشلالات وضايات لا زالت آثارها ومخلفاتها وملامحها بادية للعيان.
الواقع الحالي مشتق إذن من تطور تدريجي سمته الإقحال الطبيعي الذي أفرز المكونات والمشاهد الصحراوية. ومن خاصيات الصحراء أن لا إنبات فيها ولا إنتاج إلا سقيا، في بقع تتوفر فيها المياه بانتظام وبالقدر الكافي، نسميها الواحات. وما عدا ذلك، نباتات عابرة موسمية وظرفية محدودة قد تنبتها زخات مطرية محلية نادرة.
لابدّ من التأكيد هنا على أن ما يتردد من ظواهر الطقس والمناخ ليس جديدا ولا غير مسبوق ولا نهائي، وأن الجفاف غير قابل للتنبؤ والنّمذجة، ونعلم جيدا أن لا أحد استطاع أن يخبرنا بقدوم فترة الجفاف الحالية ولا أحد يجازف بإخبارنا بموعد نهايتها. فالتأويل الشائع في تصريحات الناس، ومنهم من نُصٌبوا أو انتصبوا «خبراء» في زمن «الخبرة للجميع، وبدون معلم أو تخصص أكاديمي»، هو أن الجفاف ناتج عن التّغير المناخي بسبب الاحتباس الحراري بغازات الدفيئة ذات المنشأ البشري… لكن، لا أحد تجاوز التصريح نحو البرهنة.
هل الجفاف هو سبب التّدهور والخراب والدّمار الذي لحق الواحات؟
نصل هنا إلى السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه، وهو، هل الجفاف هو سبب ما تعيشه الواحات من تدهور وخراب ودمار؟
في الواقع، إذا كانت للواحات خاصيات مشتركة، فإن لكل واحة خصوصياتها الذاتية وظروف وعوامل سيرورة تطورها، وبالتالي لا يمكن تعميم حالة من الحالات. بعض الواحات تدهور بسبب تراجع كمي أو نوعي لمواردها المائية، أو هجرة سكانها وتعقيد التجزيء العقاري للمشارات الزراعية الناتج عن مشاكل الإرث وتقسيمه وتقزيمه. بعض الواحات تراجعت بغلاء كلفة الماء والعمل الضرورية لإبقائها على قيد الحياة. وبغض النظر عن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية المباشرة للتدهور، ثمة طرح لافت جدير بالتحليل والمناقشة، يقودنا إلى وضع الأصبع على الجرح حيث النزيف الحقيقي الذي يعاني منه الجسم الواحي، ألا وهو الطرح المائي.
الماء هو عصب الحياة عموما وفي الواحات خصوصا. لا يمكن للمرء ألاّ يستحضر الآية الكريمة «وجعلنا من الماء كل شيء حي» عندما ينظر إلى عالم الواحات. إن التعاريف العديدة للواحات يمكن تركيبها باختزال في كونها بقعا مخضرة في وسط بيئي صحراوي. وقد وعى أجدادنا أهالي الواحات دوما أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن لا اخضرار بلا ماء، ووعوا بمحدودية الموارد المائية المتاحة، وبالتالي لم يستصلحوا من أراضيهم رغم شساعتها، سوى بقدر ما تتيحه الموارد المائية المتوفرة من إمكانات للسقي. لم تستقطبهم لا المياه المالحة ولا الترب المالحة، ولم تستهوهم فرص الضخ المفرط وغير المتكافئ، ولا الاستغلال الفرداني، بل تشبثوا دائما وأبدًا بالتدبير الجماعي المشترك لمورد محدود لا يمكن أن يكون إلا مشتركا، لضمان النجاعة والإنصاف والاستدامة.
بدأت الأمور تتغير منذ بضعة عقود، بوفود مغتربي الواحات الذين جمعوا مالا وعددوه أو أنفقوه بعاطفة أو بهدف الاستثمار، في الاستصلاح وفي التجهيز الآلي لآبار حفروها، ولمحطات الضخ على ضفاف أودية دائمة الجريان، فبدأت الأمور بتأثر صبيب العيون والمجاري، لتتراجع المقدرات المائية للدوائر السقوية التقليدية وبدأت المعاناة.
لكن في الآونة الأخيرة، سينضم لهؤلاء وافدون جدد ليسوا بالضرورة من مغتربي الواحات، وإنما «ضيوف» ينزلون بثقل مالهم أو المال العمومي الموفر لهم بسخاء في برامج التشجيع والتحفيز، وبالتجهيزات المتطورة لمشاريعهم الضخمة، ليبدأ استنزاف المياه السطحية والجوفية على السواء. هكذا يُفترس الماء المدبر أصلا بحكامة وترشيد لفائدة ذوي حقوق الانتفاع المتوارثة أبا عن جد. مجانية استهلاك الماء وبلا حدود ولا قيود وبلا ضوابط أخلاقية، قد تحوّل عالم واحاتنا إلى ما يشبه «الجنوب البعيد» (على غرار الغرب النائي Far West) بتهجير السكان المحليين بالسلب الناعم لمقدراتهم المائية تحت ذريعة مفهوم «التنمية المستدامة»، الذي يتأكد يوما بعد يوم أنه مفهوم مغلوط بشحنة إيديولوجية باتت مكشوفة، لن تحقق لا تنمية مستديمة ولا تنمية مستدامة.
يتضح إذن أن ما يحدث من ظواهر على مستوى المناخ مألوف لدى الواحات وأهاليها، وبالتالي لا يفسر تراجع المساحات الزراعية التقليدية. فالأمر في الواقع لا يعدو أن يكون استبدالا. فمقابل كل ظهور لبقعة اخضرار جديدة قد تختفي بقعة قديمة، ذلك أن افتراس الماء بالضخ المفرط له انعكاسات وخيمة بتخفيضه لمستوى فرشات المياه الجوفية، فتتراجع بموجب ذلك العيون إن لم تجف، وبالتسبب في تمازج المياه العذبة والمياه المالحة فيتعذر اعتمادها في السقي، والنتيجة لن تكون سوى القضاء على المزارع التقليدية القديمة ضدا على مبدأ قانون الماء الذي يستبعد أي استثمار أو استعمال جديد لا يحافظ على ما هو قائم، ويهدد ضمان حقوق المنتفعين السابقين الأصليين.
ما الحل والمدخل لضمان انتعاش الواحات؟
فيما يخص تنمية الواحات واسترجاع وهجها ومكانتها، فالأمر يمر أولا عبر تقدير وضعها الاعتباري وجبر ضررها، إذ باتت مصنفة تراثا عالميا لا يحق تجاهله وتبخيسه وتتفيه مكوناته المشهدية والثقافية المميزة. كرنفالات كثيرة وجعجعات كبيرة تخصص للواحات، لكن غالبا بلا طحين، أو بلا حتى آذان صاغية.
لن تنتعش الواحات بدون حماية مواردها المائية التي تعتبر العامل المحدد لأي تنمية وإنتاج زراعي في البيئات الصحراوية. والحماية تمر حتما عبر الحد من الضخ المفرط واستزراع الأراضي بدون ضمانات مقابل مائي كاف لا يؤثر سلبا فيما هو قائم من الاستغلال التقليدي ذي الأسبقية قانونيا وأخلاقيا. ومن الضروري أن تشمل هذه الحماية أيضا ما يضمن النجاعة والاستدامة بتعبئة مقدراتنا المائية المهدورة نحو البحر أو عبر الحدود. كما أن تدبير الماء لا يمكن أن يستمر ناجعا وعقلانيا دون تقييده وتأطيره بحكامة جماعية جيدة، تلغي مجانيته ولا محدودية استهلاكه، بعيدا عن خصخصته وحرية التصرف فيه بفردانية ريعية، فضلا عن ضرورة التخلي عن المحاصيل الزراعية الدخيلة المستنزفة للماء، وبإقرار تعزيز المنتوجات ذات القيمة المضافة العالية والأكثر ملاءمة للوسط الواحي. وتنمية الواحات تقتضي أيضا تطوير أنشطة مكملة وعلى رأسها السّياحة الذكية بمواصفاتها المتعددة، بيئية وثقافية ومنصفة وتضامنية، تحافظ على الموارد وتثمن الخصوصيات وتحترم الثقافات وتسهم في التنمية المحلية وتنصف الأهالي.