في هذا الحوار يجيب عبد الرزاق الحنوشي، الباحث والفاعل الحقوقي، على عدد من الأسئلة التي تهم الوضع الحالي للحياة الجمعوية بالمغرب، والعوائق والإكراهات التي يعاني منها النسيج الجمعوي، وكذا التقييم الممكن للسياسات العمومية ذات الصلة بالعمل الجمعوي، كما يقدم الحنوشي قراءة في المعطيات التشخيصية المتاحة حول النسيج الجمعوي، ثم يختم بمسألة التمويل الأجنبي للعمل الجمعوي بالمغرب.
كيف يمكن الحديث عن الحياة الجمعوية في المغرب؟
الوضع الحالي للنسيج الجمعوي بالمغرب، فيه الكثير من المعطيات التي يجب تحليلها وفهمها، أولها أنه منذ حوالي عقدين، أصبح بالإمكان معرفة بعض الأرقام، والجوانب الكمية المتعلقة بعدد الجمعيات منذ نشر أول بحث للمندوبية السامية للتخطيط. ثم أعقب ذلك نشر الكثير من المؤسسات لأرقاما وإحصائيات حول العمل الجمعوي بالمغرب، سواء تعلق الأمر بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أو المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ووسيط المملكة، الامانة العامة للحكومة. من خلال تقارير هذه المؤسسات لدينا إذن ملامح كبرى عن الوضعية العامة للجمعيات.
الواضح من هذه المعطيات، أن هناك تطورا مضطردا لعدد الجمعيات في المغرب يفوق 260 ألف جمعية، وهو تطور يرافقه عدد من التحولات فيها ما هو إيجابي وما هو سلبي نتيجة إكراهات وصعوبات تعترض العمل الجمعوي. مثلا على صعيد الانتشار الجغرافي، حيث يلاحظ أن هناك تفاوتا مجاليا في التغطية، إذ تتواجد أغلب الجمعيات في الشريط الساحلي الأطلسي ما بين طنجة وأكادير، مقابل تقلص عددها في المغرب العميق. ومع ذلك هناك دينامية محلية كبيرة في عدد من المناطق النائية. ومن التحولات التي يمكن ملاحظتها أيضا هي تزايد زخم تأسيس الجمعيات، والذي يرتبط أحيانا بعوامل خارجية، خصوصا مع إمكانيات التمويل والشراكة مع مؤسسات أجنبية أو وطنية، وهناك معطى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي ساهمت أيضا في ميلاد وبروز عدد من الجمعيات..
نحن أمام ما يزيد عن 260 ألف جمعية، هل نحن فعلا أمام مجتمع مدني حقيقي، كما ونوعا، يترافع عن قضايا راهنية لها علاقة بالمواطن؟
هناك معايير معينة لقياس مدى نجاعة هذه الجمعيات من عدمه، وهناك مؤشرات لقياس هذه الدينامية الجمعوية. وحتى نبقى في المؤشرات الرقمية، مبدئيا قد يبدو الرقم 260 ألف جمعية، ضخما، لكن لابد من تأمل هذا الرقم،: أولا هذا الرقم لايخبرنا عن طبيعة تشكل هذا العدد من الجمعيات، فالراجح أن هذا الرقم تراكمي، وهو يعطينا تعداد الجمعيات، منذ دخول ظهير تأسيس الجمعيات حيز التنفيذ في 15 نونبر 1958. بالمقابل ليس لنا معطيات حول الجمعيات التي لم تعد قائمة، سواء بالحل الذاتي أو القضائي، أو انتهاء مهامها، أو إندثارها، كما أن هذا الرقم لايعطينا المجالات التي تشتغل فيها هذه الجمعيات لمعرفة اهتماماتها وتصنيفاتها وأيضا تشكيلاتها البشرية، ومدى مساهمتهم في التنمية.. كل هذه المعطيات غير متوفرة، مما يصعب الحديث عن نجاعة جمعوية من عدمها.. ففي فرنسا مثلا هناك 2500 جمعية لكل 100 ألف نسمة، في حين فإنه في المغرب رغم هذا الرقم، نجد أنفسنا أمام 700جمعية لكل 100 ألف نسمة. نحن أمام فارق بثلاثة أضعاف، بمعنى أن هذا الرقم يمكن قراءته من زوايا مختلفة، لكن المهم هو أن النسيج الجمعوي، كما أبانت عنه الدراسة التي أنجزتها المندوبية السامية للتخطيط، يعاني من الهشاشة والكثير من المشاكل المتعلقة بالاستمرارية وضعف الضوابط التنظيمية والإدارية والتدبيرية. هناك أيضا نوع من الشيخوخة للنخب المدبرة لهذه الجمعيات مما يطرح إشكالية الخلف في ظل استمرار الحياة الجمعوية، أيضا هناك ملاحظات على التدبير الديمقراطي للجمعويات، كما أن هناك إشكالية الاستقلالية، ليس بشكل مطلق أو طوباوي، ولكن استقلالية في الاختيارات والبرامج وعدم الارتهان بالممول أو الشريك..
لكن المفروض أن هذه الجمعيات تكون لها مساهمات في السياسات العمومية وقوة اقتراحية، هل نحن في المغرب أمام هذا الصنف من الجمعيات؟
لاينبغي أن نخلق وهما في أذهان الناس كون الجمعيات تتوفر على عصا سحرية لحل جميع الإشكالات في مختلفة المجالات والقطاعات، أو أنها استمرار للسياسات العمومية، هذا خطأ ووهم، الجمعيات من حيث فلسفتها هي مبادرات حرة لمواطنين التقت إرادتهم للتعاون وتحقيق أهداف لفائدة الجماعة ويريدون تقاسم تجاربهم مع مواطنين آخرين، وفق أهداف واضحة، ويريدون خدمة الصالح العام انطلاقا من قناعاتهم الشخصية المشتركة، وليس لهم رهانات سياسية. أي أن ليس هدف الوصول إلى ممارسة السلطة كما هو الشأن بالنسبة للأحزاب السياسية التي لها هدف المساهمة في تدبير الشأن العام وتنطلق من محددات أخرى مختلفة. وهذا الخلط في الحقيقة يطرح إشكالات عميقة، من بينها هوية الجمعية وفلسفتها، لأنه أحيانا نكون أمام حماسة التأسيس، وتوافق على المبادئ والأهداف، لكن مع مرور الزمن تخبو هذه الجذوة، وأحيانا نكون أمام انزياح في الأهداف لخدمة رهانات مستجدة، ونعطي الأسبقية لاستمرارية الجمعية بأي ثمن. لكن هذا لايمنع من أن تكون للجمعيات قوة ترافعية وتفاوضية لإيجاد الصيغة الأمثل للحفاظ على استقلاليتها والانخراط في البرامج المجتمعية ذات الاهتمام المشترك والتي تتقاطع فيها مع بعض المؤسسات، مثلا قطاع التعليم هناك الآلاف من الجمعيات التي تشتغل ومرتبطة بمؤسسات تعليمية يمكن أن تكون قوة اقتراحية في هذا المجال. وقس على ذلك جمعيات ذات الاهتمام البيئي والرياضي والثقافي.. في إطار نوع من التكامل الذي لايمس من استقلالية الجمعيات.
هل بهذه البروفيلات التي نشاهدها في الحياة الجمعوية يمكن أن تكون هذه الهيئات ذات مساهمة في المجتمع المدني؟
هناك إكراهات فعلا في بروفيلات مدبري الشأن الجمعوي، بالمقابل هناك جدية لجمعيات أخرى أثبتت جدارتها في المساهمة باقتراحاتها وأضحت شريكا أساسيا لبعض المؤسسات العمومية، وهي تشكل قيمة مضافة في العمل الجمعوي سواء في المجال التعليمي أو الطفولة أو البيئة أو التنمية..
تحدثت عن دور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في إنبات عدد من الجمعيات وإخراجها للوجود، والحال أن بعضها استرزاقي، ألا ينبغي أن تكون هناك ضوابط قانونية لاحقة للجمعيات؟
المبادرة الوطنية للتنمية البشرية فيها الكثير من الإيجابيات من حيث الرؤية والفلسفة، لكن في التنزيل ظهرت مشاكل جمة من حيث الجهات المستفيدة المتمثلة في بعض الجمعيات. يبدو أن هناك اختلالا في المشهد الجمعوي على خلفية هذا المبادرة، ليس على مستوى الأرقام ولكن على مستوى المحددات، حيث أصبحنا أمام واقع بات فيه العرض أكثر من الطلب بالمنطق الاقتصادي، بمعنى أن التمويلات أكثر من إمكانيات الجمعيات في القدرة على التدبير الناجع و التوفيق بين هذه الإمكانيات المتاحة والحفاظ على طبيعة الجمعية وفلسفتها ورؤيتها، مما جعلنا أمام هذه التجاوزات والانحرافات. والأمر ليس منحصرا فقط على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بل حديثا في مبادرات أخرى من قبيل برنامج أوراش وفرصة.. هذه التجاوزات تطرح مسؤولية النخب الجمعوية في تأطير المنتسبين للحياة الجمعوية، من أجل إعادة العمل الجمعوي لسكته النبيلة، من أجل البحث في شكل من التوازن بين نبل هذه المبادرات وتشكيل جمعيات وديمومة حفاظها على هويتها وماهيتها، بما يحقق نوعا من التوازن في الشراكة بين الجمعيات وهذه المؤسسات المانحة أو الداعمة. وهذا يجعل الجمعيات في موقع المسؤولية من حيث الوقوف وقفة تأمل في مدى نجاعة وأهمية ودور الجمعيات في هذا المجال وكيف يمكن تطوير وتحسين وتجويد من أدائها..
حتى نبقى في إشكالية التمويل الجمعوي والاستقلالية، في التجارب المقارنة نجد أن المسؤوولية أو العضوية في الجمعية رهين بأداء انخراط سنوي، مما يجعلها أمام استقلالية في التسيير والتدبير، بالمقابل هناك قطاع واسع من الجمعيات في المغرب بقاء الجمعيات فيه رهين بمدى وجود دعم عمومي جهوي أو مركزي، ألا يشكل هذا مساسا باستقلالية هذه الجمعيات؟
تتوقف هذه المسألة على مدى صلابة المواقف المبدئية للمؤسسين، وقناعاتهم الراسخة من وراء تأسيس الجمعيات، ووضع كل الضوابط حتى لا يحدث انزياح عن الأهداف والغايات لضرورات تمويلية، وللأسف هذا هو الخطر الذي يتهدد الحياة الجمعوية، بحيث تتلون جمعيات وفق أجندة المانحين. بالمقابل هناك جمعيات ابتكرت صيغة متوازنة من حيث الشراكة مع الجهات المانحة، وقوت من موقعها التفاوضي، بمعنى أنها لا تقبل أي تمويل يرهن إستقلاليتها، كما التجأت إلى تنويع مصادر التمويل، حتى لايكون هناك ارتهان لجهة وحيدة.
مسألة أخرى أود إثارتها هي المتعلقة بجانب التبرعات، كما هو عليه الحال في العديد من الدول من بينها كندا والولايات المتحدة الأمريكية، طبعا كان في المغرب نقاش وتشريع متعلق بالتبرعات بشكل عام في إطار ما يعرف بالإحسان العمومي، ولكن المقتضيات التشريعية ذات الصلة بالتبرع للجمعيات ينبغي أن يتم تطويرها. ونحن نلاحظ في الدول المتقدمة أن العمل الجمعوي مبني على التطوع والتبرع، والتمويل عمومي في هذه البلدان محدود مقارنة مع حجم التبرعات أو مشاريع مدرة للدخل، لأنه أحيانا يقع نوع من اللبس، فعدم ربحية الجمعيات قد يفهمه البعض عدم قيامها بمشاريع مدرة للدخل، وهذا غير صحيح، يمكن للجمعية أن تقوم بهذه المشاريع دون أن توزع الأرباح بين أعضائها.
ربما هذه الإدارة الجمعوية هي ما ينقص بعض جمعياتنا، التي تقتصر فقط على المكتب بأعضائه، مما يرهق من الأداء وينقص الفعالية والنجاعة..
هذه النقطة المتعلقة بالإدارة الجمعوية، مدير، مكلف بالمشاريع، سكرتارية، موظفين.. برزت ضمن التحولات التنظيمية للجمعيات التي سبق ان تحدثنا عنها بداية الحوار. فبداية من تسعينيات القرن الماضي، بدأ يبرز جيل جديد من الجمعيات تحاكي التدبير المقاولاتي في التسيير والتدبير، بمعنى هناك جهاز منتخب وهناك إدارة تدبر، على النموذج الأنجلسكسوني، وأحيانا يتوارى دور المكتب المنتخب، تاركا زمام الأمور لطاقم يضع المشاريع ويوقع الشراكات، وينظم الأنشطة.. وهذا الشكل التنظيمي أبرز مشاكل جديدة، لأنه أحيانا تقع خلافات بين الجهازين المنتخب والإداري، فالمؤسسون لهم فلسفة معينة وفق أهداف مضمنة في القانون الأساسي، وبين إدارة مقاولاتية، مما يجعل عددا من الجمعيات تفقد هويتها ويتراجع المؤسسون للوراء جراء التفويض الكامل والكلي للتدبير الجمعوي..
لكن بالمقابل حققت جمعيات أخرى اعتمدت الإدارة الجمعوية، نوعا من المأسسة وتحقيق النجاعة وتخفيف الضغط على الجهاز المنتخب..
هي مسألة متعلقة بمدى درجة التفويض والحضور الدائم للمؤسسين في هذه الإدارة الجمعوية، والأمر مرتبط بتحقيق التوازن بين الجهازين، فالجمعية بمؤسسيها هي مدرسة للتكوين والمواطنة والعيش المشترك، والتربية على القيم والتضامن ونكران الذات والاعتراف والوفاء وخدمة الصالح العام، وتدبير الاختلاف، بمعنى أننا لسنا في منطق مقاولاتي يحقق الأرباح والنجاعة المادية فقط، طبعا هذا مطلوب، لكن ضمن دينامية الجمعية، وهذا هو التحدي، وحتى لا نصبح أمام جمعيات عبارة عن “ماكينة” لتنفيذ المشاريع، وأسئلة التأسيس ينبغي أن تظل مرافقة لحياة الجمعية..
إلى جانب الدعم والمنح التي تتلقاها الجمعيات، هناك الدعم الأجنبي والذي أسال مدادا كثيرا، بين مؤيد له ومعارض، ومدى إمكانية الحديث عن السيادة الجمعوية والحفاظ على هويتها الوطنية.. فمهما كان الأمر، فإن التمويل عند هذه الجهات الأجنبية، ليس لسواد عيون جمعياتنا، ما موقفك من هذا النقاش؟
ينبغي تجاوز صنفين من الخطابات، الأول يسعى لشيطنة التمويل الأجنبي. شخصيا أنا أرفض هذا الأسلوب أو هذا الخطاب، لكن في نفس الوقت، أعتقد أنه من السذاجة، الاعتقاد بأنه لا حياة للجمعيات بدون تمويل. أجنبي أعتقد أنه لابد من إحداث توازن بين الأمرين، من منطلق أن الجمعية تدرك تمام الإدراك استراتيجيتها وفق فلسفتها، ومن حقها الدخول في مسلسل تفاوضي لتقدير مدى تناسق هذا التمويل المتاح مع أهدافها التأسيسية، وتبحث عن العرض الأكثر ملاءمة مع أهدافها، وتضع إطارا تعاقديا مع شريكها لتحقيق مجموعة من الأهداف عن طريق تلك الشراكة. ونستحضر جمعيات ناجحة في هذا المجال، ولم تمس “سيادتها الجمعوية”، مع العلم بأن الحياة الجمعوية مثل الحياة الإنسانية، ولابد من تقييمات مرحلية لمعرفة الوضع الحالي والمستقبلي لأي شراكة من تمويل أجنبي، ولاشيء يمنع من إلغائها أو مراجعتها إذا انزاح التمويل عن مساره المرسوم في البداية. وعندما نتحدث عن عولمة الاقتصاد نكون أمام عولمة التمويل، وهناك تمويلات متاحة على الصعيد الدولي وجب استثمارها بما يخدم الأهداف والغايات، وإذا كان هناك رفض مطلق لها، فإن هذه التمويلات تذهب في اتجاه جمعيات دول أخرى كما كان عليه الحال في تونس أو مصر أو لبنان.. علما أننا في المغرب لازال التمويل الأجنبي المصرح به لدى الأمانة العامة للحكومة وفقا للقانون، محدود نسبيا، وآخر رقم يعود الى شهر أكتوبر 2023 خلال تقديم مشروع الميزانية الفرعية للأمانة العامة للحكومة أمام مجلس النواب، يشير إلى أن 256 جمعية فقط قد صرحت بتوصلها بتمويل أجنبي بلغ 386 مليون درهم. وعموما هناك حاجة اليوم لإصلاح شامل للإطار التشريعي للعمل الجمعوي، وكل أشكال التنظيمات غير الربحية بما في ذلك المؤسسات (Fondation) ومؤسسات الرعاية وما يعرف في بعض الدول بالشركات غير الربحية.
في هذا السياق ما هي العوائق التي تعترض العمل الجمعوي وما هي سبل تجاوزها؟
أعتقد أنه المفيد ملاءمة التشريعات ذات الصلة بالجمعيات مع مقتضيات الدستور وكذا مستلزمات الممارسة الإتفاقية للمغرب، ولاسيما التكريس الواضح لحرية الجمعيات والطابع التصريحي للقانون وتعزيز دور السلطة القضائية في حماية هذا الحق. كما أن هناك حاجة أيضا لإخراج المجلس الإستشاري للشباب والعمل الجمعوي إلى حيز الوجود باعتباره المؤسسة الدستورية المؤهلة بمواكبة وتطوير النسيج الجمعوي.