مصطفى الخداري: يوميات رجل تعليم في هولاندا.. أسئلة بدون جواب

مصطفى الخداري: يوميات رجل تعليم في هولاندا.. أسئلة بدون جواب مصطفى الخداري

توقفت الحافلة بالقرب من المدخل الرئيسي لبلدية أمستردام. كانت لجنة صغيرة من الموظفين في استقبال تلاميذ المجموعة 8 رفقة أستاذة القسم ونائب المدير.

 

 

حاولت إحدى الموظفات تكسير جو البروتوكول الرسمي بإضفاء لمسة مرحة, قائلة:" هذه الزيارة أفضل من المكوث في القسم طيلة اليوم, أليس كذلك؟"

 

 

لكن الرد لم يكن كما كانت تتوقع الموظفة.

" ربما." أجابها أحد التلاميذ.

لم تكن المسافة طويلة بين مقر البلدية و المدرسة. هذه الأخيرة تتواجد في المنطقة الشرقية من المدينة. منطقة اشتهرت بمبانيها القديمة الضيقة و كثرة الدكاكين المتنوعة التي تعكس فعلا الشريحة السكنية التي تعيش فيها. غالبيتها أجانب ومعظمهم مغاربة وأتراك ذوي الدخل المحدود أو عاطلين عن العمل. وبالتالي فجميع منتجات وبضائع هذه البلدان الأصلية تجدها وبوفرة كبيرة في المحلات التجارية التي يزخر بها الحي.وكأنك تتجول في إحدى أسواق إسطنبول أو المدينة القديمة بتطوان.

 

 

نادرا ما تسمع اللغة الهولاندية تتداول في هذه الأحياء. بإمكانك التبضع على راحتك وأنت تتكلم لغتك الأصلية.

 

 

تذكرت تدخل أحد الأباء الأتراك أثناء أمسية إعلامية نظمت في المدرسة من إجل إبراز أهمية بعض البرامج التربوية التي تقدمها إحدى القنوات التلفزية الهولاندية. الهدف من هذه البرامج التلفزية تحسين المستوى اللغوي للأطفال من " أصل أجنبي" في اللغة الهولاندية.

 

" ابني وأنا أيضا لسنا في حاجة لتحسين لغتنا الهولندية"

كل الأعنق اشرأبت تجاه جهة الصوت بعد سماعها لهذه التوطئة. ثم أضاف:" جميع جيراني أتراك, شارع " يافا" مملوء بالمحلات التركية, أصلي في المسجد التركي, عطلتي أقضيها في توركيا.بالإضافة لهذا بإمكاني حاليا متابعة جميع البرامج التلفزية التركية هنا بكل سهولة. فما جدوى تعلم هذه اللغة المعقدة ونحن لسنا بحاجة لها؟"

 

 

انفجر جميع من في القاعة ضحكا.

وفي الحقيقة أصاب هذا الأب موضوعا مهما تتخبط فيه هولاندا منذ يداية قدوم الجاليات الأجنبية التي ساهمت بشكل كبير في بناء وخدمة هذا البلد الذي دمرته الحرب العالمية. حيث اختلط عليها الحابل بالنابل ولم تعد تميز الحل من الوهم. وأضحت تطل علينا في كل حين ببحث جديد حول الهوية / الاندماج / اللغة الأصلية / الجنسية المزدوجة وغيرها من هذه المصطلحات التي وجد فيها " الباحثون" و "السياسيون" مجالا خصبا لإغتناء.أو تتفنن في اختراع اسم جديد تضيفه الى قائمة الأسماء التي ابتكرتها كل مرة في هذا الموضوع: أجنبي/ مهاجر / جيل جديد / الجيل الأول الخ. وكأن إطلاق اسم جديد هو الحل للمشاكل التي يعرفها هذا المجتمع.

 

 

في هذه المنطقة الشرقية حيث تتمركز فيها نسبة كبيرة من الأجانب في وضعية صعبة,تجد الأحزاب العنصرية المجال لتكشر عن أنيابها وتحمل الأجانب المسؤولية حول تفاقم المشاكل الاجتماعية وتصاعد نسبة الجرائم.

 

 

وسط هذا الزخم الكبير تم اغتيال المخرج السينيمائي والكاتب الهولندي" فن خوخ" سنة 2004 في أحد شوارع المنطقة الغاصة بالمشاة في وضح النهار. عندما تفشى الخبرفي القنوات الرسمية, تحولت أجواء هولندا بكاملها وأمستردام بالخصوص الى جو مشحون بالتوتر والهلع. وكأنها قنبلة انفجرت في هولاندا بكاملها.

 

اكفهرت الأجواء في ذلك اليوم المشؤوم. و خصوصا عندما تبين أن القاتل شاب من أصل مغربي . لم يعد هذا الأخير تحمل الإنتقادات السلبية والمتكررة التي كان يصرح بها هذا المخرج حول الدين الإسلامي و حول النبي(ص).

 

 

 

وتسرب الخوف والرعب للساكنة بصفة عامة والمغاربة بالخصوص. وأصبحت جميع القنوات الإذاعية والتلفزية لا يشغلها شاغل حول هذا الموضوع. حيث استحوذ الخبراء والباحثون والسياسيون على منابر الإعلام لتحليل هذا الحدث و ربطه طبعا بموضوع الهجرة و الإسلام و اللإندماح وغيرها من هذه المصطلحات التي تجتر في مثل هذه المناسبات.

 

 

وزيارة المجموعة 8 هاته ,التي تتشكل في الغالب من أبناء المهاجرين المغاربة, للقاء بعامل المدينة تندرج في هذا السياق.

لقد اهتدت البلدية الى نهج سياسة التقرب والتواصل مع المهاجرين وأبنائهم قصد تهدئة الأوضاع في هذه المرحلة المضطربة.

كان لقاء مفتوحا تبودلت فيه وجهات النظر مع العامل الذي تفاجأ عندما ألقى عليه أحد التلاميذ السؤال التالي:" ما هو المشكل بينكم وبيننا؟"

لم يكن العامل - في نظري – يتوقع هذا السؤال المباشر والمحرج في نفس الآن. نفس الشيء بالنسبة لللأستاذة و لنائب المدير.

 

 

ظل الصمت مخيما على القاعة بعض الوقت.

" نحن جميعا هولنديين. لا فرق بين هذا وذاك". هكذا بدأ العامل إجابته على السؤال, ثم تابع كلمته -كما هي عادة السياسيين- في مثل هذه المواضيع الحساسة, دون التطرق لصلب الموضوع.

 

إذا كانت نظرة المجتمع لازالت تفرق بين أطفال أصليين وأطفال أجانب رغم أنهم ولدوا وترعرعوا في هذا البلد, فهذا يولد تأثيرا سلبيا على أنفسهم ويضع علامة استفهام على مستقبلهم.

فكيف تطلق اسم "غريب" و " أجنبي" على طفل وتريد منه أن يحس في نفس الوقت بأنه " هولندي"؟

هل اقتنع التلميذ ومن معه بالرد الذي قدمه العامل؟

هل كانت زيارة اليوم أفضل من المكوث في القسم؟

إلى متى ستظل علامة "أجنبي" لاصقة بظهر الأطفال الذين ولدوا وتربوا في هذا البلد؟

لازالت لحد الآن الإجابة عن هذه الأسئلة وعن كثير من مثيلاتها عالقة دون جواب حقيقي.

 

مصطفى الخداري، نائب مدير مدرسة بأمستردام (متقاعد)