أحمد الحطاب: السياسة والمثقفون قُطبان متنافران!

أحمد الحطاب: السياسة والمثقفون قُطبان متنافران! أحمد الحطاب
فيزيائياً، المِغناطيس له قُطبان deux pôles. قّطبٌ شمالي وقُطبٌ جنوبي. ومن أهمِّ خصائصه ses propriétés أنه يُحدث حولَه حقلا مغناطيسياً un champ magnétique. وإذا التقى، في نطاق هذا الحقل، قطبٌ شمالي بقطبٍ جنوبي، يحدث بينهما تجاذبٌ، بمعنى أن القُطبين يتجاذبان. وإذا التقى قطبٌ شمالي بقُطبٍ آخر شمالي، فإنهما يتباعدان أو يتنافران. نفس الشيء يحدث لما يلتقي قطبٌ جنوبي بقُطبٍ آخر جنوبي. بعد هذا التَّوضيح، فلماذا قلتُ في عنوان هذه المقالة : السياسة والمثقفون قطبان متنافران؟
 
لأن ما حدث بين قطبين شماليين أو جنوبيين، يحدث بين السياسة والمثقفين، بمعنى أن السياسةَ، كما هي ممارسةٌ اليوم، لا تجذب المثقفين. فهذان العُنصران يتصرفان وكأنهما قطبا مغناطيس شماليان أو جنوبيان، بحيث أن الأول يبتعد عن الثاني. وكلما كان جُهدُ puissance القطبين قويا، كلما زادت مسافة الابتعاد عن بعضهما.
 
ولإزالة كل لُبس كي لا يُعمِّم القارئ ما سأقول على جميع المثقفين، لا بدَّ من توضيحٍ آخر. فعندما أتحدث عن المثقفين، المقصود هم المثقفون الشرفاء والنزهاء، الذين يحترمون أنفسَهم ويحترمون الغيرَ والمجتمع والبلاد. ولهذا، فكلامي لا يسري على مَن نصَّبوا أنفسَهم مثقفين، أي شبه المثقفين، ولا على حتى المثقفين الذين باعوا ثقافتَهم بثمن رخيص. كلامي يسري، فقط وحصريا، على المثقفين الذين يعتبرون ثقافتَهم وسيلةُ لتوعية الشعب وإخراج بعض أعضائه من سذاجتهم الفكرية، والبعض الآخر من سذاجتهم السياسية.
 
السذاجة الفكرية naïveté intellectuelle هي الوضع النفسي état d'esprit أو الموقف attitude  الذي يجعل من شخصٍ ما يمنَح ثقتَه لكل الأفكار التي تُعرَض عليه. بمعنى أن هذا الشخص لا يُخامره أدنى تشكيكٍ فيما يخصُّ هذه الأفكار. بل إن خلفيتَه الفكرية والثقافية لا تسمح له أن يُمرِّرَ هذه الأفكار من مصفاة الفكر النقدي à travers le filtre de la pensée critique. وعندما نتحدَّث عن الفكر النقدي، فالأمر يتعلَّق بنقد وتمحيص واختبار الأفكار لقبولِها أو رفضِها. ولهذا، فكل شخصٍ غير مسلَّح بالفكر النقدي، فإنه مؤهَّل ليقبلَ، بسهولةٍ، ما يُعرض عليه من أفكار. وبالطبع، هذا النوع من الناس يصبح غير قادر على التَّمييز بين ما هو إيجابي وما هو سِلبي في هذه الأفكار، وحتى لو كانت هذه الأفكار، هي نفسُها بسيطة وسطحية.
 
أما السذاجة السياسية، فهي أن يعتقد بعض الناس أن السياسة تحلُّ كل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وبالأخص، مشاكلَهم الشخصية. وإذا اقترنت السذاجة السياسية بالسذاجة الفكرية، فهذا هو ما يبحث عنه السياسي السيء النوايا، يعني أن تختلط الأمور في ذهن الناس، ليُفتحَ له الباب واسعا لبثِّ فساده وإفساده في المجتمع وللحصول على مزايا غير مشروعة. في هذه الحالة، فما هو دورُ المثقفين الشرفاء والنزهاء؟
 
دور المثقفين الشرفاء والنزهاء هو توعيةُ الناس  وتنويرُ عقولهم لتخليصِهم من سذاجتهم الفكرية ومن سذاجتهم السياسية. فما هو المُثقَّفُ وكيف يرى المثقَّفون السياسة كمفهوم؟
 
المثقَّف هو الشخصّ الذي يستعمل ثقافتَه sa culture وعقلَه son esprit ou sa raison لإدراك pour comprendre ما يحتوي عليه المجتمع من مُكوِّنات، ويستعمله، كذلك، من أجل إدراك ما يجري في هذا المجتمع من أحداث وظواهر اجتماعية، على الخصوص. والإدراك ينطلق دائما من خلفية فكرية، ثقافية ومعرفة مسبقة. وعندما يكتمل الإدراكُ، يكون المُثقَّف قد فهِمَ مجتمعَه، وفهِمَ، كذلك، ما يدور فيه من أحداثٍ وظواهر.
 
أما السياسة، فالمُثقفون يرونها كعلمٍ قائم الذات له قواعده ومبادئه. علمٌ يجعل مِمَّن يمارسون السياسة ناسا يجعلون من الحكامة gouvernance أساسَ أفكارهم وأعمالهم. بل يجعلون من الحكامة وسيلةً لتدبير شؤون البلاد بنجاعة وفعالية، بما فيها الاجتماعية والاقتصادية، وذلك من أجل تنمية هذه البلاد، من خلال بناء سياسات عمومية ينتفع منها العباد والبلاد.
 
ولهذا، إن المثقفين لا يرون السياسةَ، كمفهومٍ علمي، كمايراها عامة الناس أو كما يراها السياسيون الوصوليون politiciens arrivistes أو السياسيون الانتهازيون politiciens opportunistes، أي كمجرَّد شيءٍ مٌبهمٍ، يُعطونَه ما يحلو لهم من معاني تساير أهواءَهم ورغباتِهم غير المشروعة. 
 
بعد هذا التوضيح، السياسة، بتفسير مقتضب، هي فن تسيير وتدبير الشؤون العامة لبلد ما. والسياسة لها أحزابها التي وُجدت لتتنافسَ فيما بينها لتصلَ إلى السلطة وتُناطَ بها، آنذاك، مسئولية تدبير الشأن العام سواء على مستوى البرلمان أو على مستوى الحكومة. 
 
البرلمان، من أجل التشريع وسَنِّ قوانين تؤطِّر وتوجِّه التنمية الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، إضافةً إلى مراقبة عمل الحكومة. وكل القوانين التي يسنُّها البرلمان يجب أن تكون منسجِمةً مع روح الدستور الذي أقرَّه الشعبُ بأغلبةٍ ساحقة.
 
أما الحكومة المنبثقة من الأغلبية البرلمانية، فوزراءها، وإن كانت لهم انتماءات سياسية مختلفة، فإنهم، بمجرَّد ما يُستوزرون، يصبحون ممثِّيلن للشعب برمته. أولا، لانهم يدبِّرون السأنَ العام، وثانيا، الشأن العام يهمُّ جميع المغاربة، بدون استثناء. وبما أن الحكومةَ تمثِّل الشعبَ بأكمله، فهي مُطالبةٌ بتنزيل البرامج التنموية التي دافعت عنها أحزابُها السياسية أثناءَ الحملات الانتخابية. هذه هي السياسة وهذه هي ممارستُها العادية، علما أن السياسةَ، كما سبق الذكرُ، علمٌ قائم الذات له قواعِده ومبادئه ومعارفُه ومصطلحاتُه.
 
فعلم السياسة science politique أو politologie، هو فرعٌ من فروع العلوم الاجتماعية sciences sociales، ويدرس القضايا أو الظواهر السياسية، أي كل ما يتعلَّق بتسيير وتدبير شؤون الدولة la gestion des affaires étatiques، سواءً منها الداخلية أو الخارجية.
 
فلماذا يكره المثقفون الشرفاء والنُّزهاء السياسةَ، مع العلم أنهم هم أول مَن لهم درايةٌ بعلمها وبمجرياتها؟ مما لا شكَّ فيه أن هؤلاء المثقفين لهم ما يكفي من الأسباب لتبرير كُرهِهم للسياسة. من بين هذه الأسباب، أذكر على سبيل المثال :
هناك أمر مهمٌّ تجب الإشارة إليه: العزوف عن السياسة، بصفة عامة، ليس شأنا محصورا في بلدٍ دون آخر. العزوف عن السياسة يكاد يكون ظاهرةً كونيةً تشتكي منها الكثير من البلدان بما فيها البلدان التي لها باعُ طويل في ممارسة الديمقراطية. لماذا؟ 
 
في نظري، السبب الأول الذي يجعل المثقفين الشرفاء والنزهاء بعيدين عن السياسة هو الفساد، بشتى أشكاله، الذي طال هذه السياسة. وهنا، يجد المثقفون الشرفاء أنفسَهم في مأزق يصعب الخروج منه. 
 
من جهة، المثقفون النزهاء لا يريدون اقتران اسمائهم بالفساد، ومن جهة أخرى، هم واعون بأن عزوفَهم له انعكاسات سلبية على المسارات الانتخابية، وبالتالي، تسهيل وصول الفاسدين إلى السلطة. 
 
وما يزيد في الطين بلةً، هو أن المثقفين الشرفاء يعرفون، حق المعرفة، أن انخراطَهم في السياسة، ترشيحا وتصويتا، لن ينفعَ في شيء لأن الفاسدين والمُفسدين لهم ما يكفي من الوسائل غير الأخلاقية التي تضمن لهم الوصول إلى السلطة. وهنا بيت القصيد.
 
إضافة إلى هذا الواقع المرِّ، المثقفون الشرفاء يعرفون أن انخراطَهم في السياسة لن يأتي بتغيير يُذكر ما دام المشهد السياسي بأحزابه فاسد حتى النخاع. والتجربة بيَّنت وتبيِّن ذلك بوضوح. المثقف يُحارَب بفظاعةٍ من طرف لوبيات الفساد.
 
وحتى إن توفَّق المُثقَّفُ في الانتخابات، فإنه يجد نفسَه أمام مأزق آخر. إما أن يتكيَّف مع الفساد وإما أن يُحاربَه. في هذه الحالة الأخيرة، فإن محاربتَه للفساد لا تتعدَّى صَبَّ الماء على الرمل. لماذا؟
 
لأنه، إذا انتشر الفسادُ في المجتمع وصار ثقافةً قائمةَ الذات، فهذا معناه أنه أصبح يسيطر على عقول الناس وجزأً من تفكيرهم. وعندما يصبح الفساد جزأً من عقليات الناس، تصعب محاربتَه. وهذا هو ما جاء في التَّقرير الذي خرجت به الهيئة الوطنية لمحاربة الفساد والرشوة والوقاية منهما.
 
قد يقول قائل إنها ورطة ما بعدها ورطة. فعلا، إنها ورطة أرغمت العديدَ من المثقفين على الابتعاد من السياسة والتَّفرُّغ للثقافة. بل إن كثيرا من المُثقفين ابتعدوا عن السياسة لا من حيث الممارسة ولا من حيث التًّتبُّع. فما هو الحل إذن؟
 
الحل بيد الدولة، حكومةً، برلماناً وأحزاباً سياسية وذلك بتطبيق القانون تطبيقا صارما والضرب بيد من حديدٍ على أيادي الفاسدين والمفسدين، كيفما كانوا. والأحزاب السياسية، هي المعنية، أولا وقبل كل شيءٍ بمحاربة الفساد. غير أن هذه الأحزاب، عوض أن تُحاربَه، أصبحت هي مصدرُه. فهل يُعقل أن يُطلبَ ممَّن يبثُّ الفسادَ في المجتمع، أن يحاربَه؟ وهل يعقل أن يُطلبَ من الفاسدين والمُفسدين أن يُحاربوا أنفسَهم؟  بعبارة أخرى، هل يُعقل أن يُطلَبَ من الفاسدين والمُفسدين أن يُحاربوا الفسادَ ضد مصالحهم؟ بالطبع، لا ثم لا ولا شيءَغير لا! الحل الوحيد هو تطبيق القانون بكل صرامة بغض النظر عن جميع الاعتبارات كيفما كانت!
 
وبالطبع، حتى المواطنون لهم دورٌ في القضاء على الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي وذلك بانخراطهم انخراطا قويا في السياسة وضم جهودهم لجهود الدولة. وذلك بتحويل عقلياتِهم من عقلية الأنانية إلى عقلية الصالح العام الذي يخدم مصالح البلاد والعباد.
 
كما أن الحلَّ يمر،  كذلك، من المدرسة التي يجب أن تتحوَّلَ من معمل لحشو الأدمغة إلى مؤسسة مواطنة هدفُها الأول والأخير هو بناء الإنسان المواطن فكريا، اجتماعيا، تربويا وأخلاقيا. وهذا يعني أن المدرسةَ، من. واجبها أن تساهمَ في تنشئةٍ اجتماعيةٍ socialisation تراعي مصلحة البلاد والعباد.
 
وللأسرة كذلك دور يكمَّل ما تقوم به المدرسةُ في بناء الإنسان المغربي،  المواطن الذي، بالطبع، يُطوِّر نفسَه ويسعى إلى تطوير وطنه.
 
وحتى علماء وفقهاء الدين، عوض أن ينشغلوا بتصنيف الناس إلى مسلمين (مؤمنين) وكُفَّار، عليهم أن يُساهموا في محاربة الفساد قولا وفعلا. واليوم، لهم ما يكفي من المنابر (شبكات التواصل الاجتماعي، الإذاعة والتلفزيون، خطب الجمعة…) للقيام بهذا العمل النبيل. فلا يكفي أن يقولوا لنا إن الفاسدين والمُفسدين مثواهم جهنَّم، أي أن لا يكتفوا بالموعظة. فعليهم أن يُساهموا، فكراً وممارسةً، في محاربة الفساد، علما أن القرآنَ الكريمَ يسير في هذا الاتجاه، مدعوما بالأحاديث النبوية الشريفة الصادرة، فعلا وحقيقةً، عن الرسول (ص).