جميل هذا الاحتضان لـ"أنفاس بريس"، لتعدد الآراء حول مسألة توحيد خطبة الجمعة. فبعد مادة الأستاذ مصطفى الإدريسي: "دواعي توحيد خطبة الجمعة.. رفع اللبس!"، من موقع المنافحة عن قرار وزارة الأوقاف، كانت مادتنا "إضاءة الدجنة عما في توحيد الخطبة لنقض وظيفة الجوامع من خدعة!"، في باب الرد، من موقع مغاير، من داخل النواظم الجامعة للأمة في المغرب. ثم كان تعقيب الأستاذ الإدريسي:"شتان بين إضاءة دجنة القصري وإضاءة دجنة العلامة المقري"، حيث غاب موضوع توحيد الخطبة من العنوان، فحصلت انزياحات أبعدته عن جوهر النقاش. وهو ما سيحملنا على تحرير القول التالي في صيرورة "قول على قول"، فنقول وعلى الله التكلان :
إن الكلام من موقع الملاحظ المواكب للشأن الديني، ومن موقع المنتسب لمداخل قدر من فهم الأشياء وتمحيصها، لا يمكن أن يقبل في باب الخطاب، المكابرة والمزايدة المجانية في تحليل الأشياء وفهمها.
لذلك من الطبيعي أن يثمر التأمل في دفاع الأستاذ الإدريسي عن خطة توحيد خطبة الجمعة في المنابر، بعض الملاحظات التي نرى من الواجب مقاسمتها مع القارئ، حتى يرتفع اللبس وتزول الغشاوة.
1-إن حديث الإدريسي عن عنوان الموضوع واستعارته من كتاب المقري "إضاءة الدجنة"، وإبراز الفرق بينه وبين ما قصدنا تبيينه في المقال، يظهر من جهة تهافت الإمساك بمسالك البلاغة، كما سيظهر وهو ينزلق إلى سؤال مغربي، عن عقيدته؛ هل هي أشعرية أو لا؟ أنه بدأ ينحرف بالنقاش عن موضوعه، حتى بطرق باب النوايا. ولن ننساق معه لنختبر نطقه لـ"الدجنة"، هل بسكون الجيم أم بضمها؟ فقد يكون سؤالنا عن النطق سليما.
أما السؤال عن العقيدة والنوايا، فمن التشقيق عن القلوب، رغم وضوح منطلقنا في النقاش.
لكن حتى لا يقع الانزياح عن جوهر الموضوع، فإن توحيد الخطبة، يتنافى مع تعدد الأعراف والعمل في المذهب المالكي، ومع الجهوية في التدبير الترابي. ولإنعاش ذاكرة الإدريسي، فقد كانت هناك منذ سنوات، خطبة موحدة حول حرق الغابات.
والحال أن هذا التنميط يتنافي وتضاريس بعض مناطق البلاد.فمثلا أية غابة في الصحراء المغربية؟ أليس من الاستبداد فرض خطبة موحدة مركزيا، من خارج المناسبات الوطنية والدينية، على كل جهات المغرب؛ بتعدد جغرافيتها ونوازلها وأعرافها وما جرى بها العمل؟ أليس في هذا التنميط، استبداد يلغي غنى تاريخ وجغرافيا المغرب بالكامل؟
2-أما تبجح الإدريسي، لتبرير المسافة بين الدين والتدين، لإضفاء المشروعية على توحيد الخطبة، بأن هناك دراسة ميدانية قامت بها مجلة مغرب اليوم الجديد في 2010. فهل معطيات البحث التدخلي مرت عليها أكثر من 14 سنة، تصلح أن تعتمد في وقتنا الراهن.
إن أمورا كثيرة تغيرت وحقائق تبدلت وأرقاما انقلبت رأسا على عقب. علاوة على أن المجلة التي استشهد بها، معروف هدفها في الحفر عن الطابوهات والسلوكات الشاذة من قبيل (وكالين رمضان والشواذ والعاهرات.....) فهل تقبل والحال هاته أن يعتمد على معطياتها.
إنه عوض الاستناد إلى أبحاث لها خلفياتها، التي قد توظفها الأصولية للاستدلال على جاهلية المجتمع المغربي، مما يمنح المشروعية لمخططاتها، فإنه كان بالإمكان من باب النزاهة والموضوعية، أن تستطلع وزارة الأوقاف رأي الخطباء بطريقة علمية un petit sondage، لتبني مشاريعها عن بصر وبصيرة.
لكن ما هو ملاحظ، أن وزارة التوفيق، لم يسبق لها أن اعتمدت التشخيص الميداني، ولا الرصد من خلال الاستمارات العلمية، ولا التحليل الكمي، ولا التقويم، في تجربة التلفاز، وتأهيل العلماء، وتخريج الأئمة المرشدين والمرشدات، والتعليم العتيق.
والخطبة في أفق توحيدها اليوم، لم يسبق أن خضعت للتقويم لمعرفة أين وصلت؟ ومدى تحقيقها لأهدافها؟ وهل تحتاج إلى تغذية راجعة؟
وعلى العموم، لا محيد عن القول إن عدم التزام المقاربة العلمية في تحليل الظواهر الإنسانية، سيسقطنا دوما في الارتجال والعشوائية والاستبداد والفساد.
3-وحتى نضع الأمور في قعر المرآة، لتطوير النقاش على مستوى المعادلات الكبرى كذلك، فإن توحيد الخطبة، هو خطوة تنطوي على أهداف انقلابية، لا تنفصل عن "مقاصد" ابن تيمية في الدليل الإيديولوجي للمجلس العلمي الأعلى، "سبيل العلماء"، وقد سبق لـ "أنفاس بريس" أن فككت في إبانه، خلفية هذا الدليل، وسكتت الجهة المعنية عن التوضيح. كما لا تنفصل خطوة التوحيد هذه، وهي تندرج في مسمى برنامج "الحياة الطيبة"، عن مثل نفس البرنامج في الحوزات الشيعية.
فالوضع في متشابهه، كمحكم البرامج التي تسهر عليها الأمم المتحدة في قطاعات أخرى في العالم. وعلى أهل العلم تأويل هذا المتشابه في الحالة المغربية، في ظل صراع العربية السعودية بإديولوجيتها الوهابية مع طوق التشيع حولها، وإلا فإن مخطط الانقلاب المذهبي آخذ مجراه بكل نجاح...
ونتمنى على الأستاذ الإدريسي أن يستجمع بلاغته، في حدود تجنده مع وزارة الأوقاف، لبيان قيمة توحيد الخطبة في معمار الحياة الطيبة، من خلال النموذجين المقدمين لحد الآن للخطبة الموحدة، وأن يقيس في ذلك منحى منسوب التأمين في الدعاء!
وبالجملة، فما إن لم يتم تدارك الأمر، وبقي سريان العزف على نغمة "قولو العام زين"، فسيضيع المسجد في رواده، ويضيع الخطيب في اعتباره، ويضيع صاحب الأمر في تأمين دعائه، وهو لا يسألنا، في لحظة صفائنا في بيوت الله، إلا الدعاء الصالح، عونا له لإصلاح أحوال العباد والبلاد!