... وفجأة كانت الدار البيضاء.
مدن في مدينة واحدة، لوحة صاخبة ورواية تكتب كل يوم بشكل جديد.
للكتابة عنها يحتاج المرء إلى مسافة معينة هي تلك القائمة بين زمنين:
زمن الواقع وزمن الحلم.
لكن لنؤكد أنها الآن معمل للقيم، ذلك أنها الطاحونة التي عندها تلتقي كل الخلجان. بالتالي هي وجهنا الذي به نحاول أن نصل إلى شيء اسمه "التمدن".
لذلك فهي تصوغ الآن ثقافتها الخاصة، تلك الثقافة التي يتصارع (أو لا يتوافق) فيها متناقضان:
قلوب من الطين لكنها تمشي على الإسفلت.
وإن كانت إمكانية مقاربة ذلك تتوفر على مستويات عدة، فلنكتف أولا بقراءة ونبش في دلالة الإسم المتعدد بالدار البيضاء. هذه الجغرافيا الممتدة على كيلومترات، ومن خلال أجساد وعبر مسارب زمنية.
لنستمع إلى هذه الأصوات (الأسماء):
درب الديشان
درب بوكليب
درب الفصة
درب كاشبار
درب الطاليان
درب ليهودي
درب كريكوان
درب كرلوطي
درب الفقراء
درب بوطويل
درب الطلبة والشرفا
درب الكبير
درب ميلا
درب الذبان
.....
هذه الدروب جميعها إلى أين تفضي؟ إلى أية قيم، إلى أية أزمنة وإلى أي معنى حياة؟ أليس الإسم يقع على المسمى؟ والدلالة أليست واضحة في ذلك؟ إن الأسماء رموز لايديولوجيا متحولة، اختزال لصور طبقات وشرائح وفئات اجتماعية. اختزال لقيم ومظاهر حياة.
ثم هؤلاء السادة:
سيدي بليوط
سيدي عثمان
سيدي معروف
سيدي البرنوصي
سيدي الخدير
سيدي مومن
سيدي فاتح
سيدي علال القرواني
.....
من سيَّدَهٌمْ على جراحنا؟ أمية الوقت السائب، ذاكرة الأهل المتعبة، أم الذي لا يسمى؟
أليسوا هو "رجال لبلاد"؟ إن الذاكرة تقول لنا أن نطلب منهم القبول و "التسليم". هل تذكرون جداتنا وأمهاتنا وهُنَّ يقلن دائما في هذا المقام "شايلاه".
+++++++++
ثم هاته العيون (للعين خصوبة سيميائية):
عين الذئاب
عين السبع
عين الشق
عين الشفا
عين برجة
....
لم هي جافة وقاسية هكذا؟. من سماها؟. من أعطاها بعض دلالات الغاب هذه؟. إن للعين خلايا، ولها معنى الإستخبار ولها معنى الرقابة، ولها الدمع، لها أيضا ثراء الدلالة. فتأملوا قليلا.
+++++++++
والأسماء الأخرى تلك:
آنفا
كاليفورنيا
الوازيس (كأنها الواحة والباقي صحراء)
بولو
المعاريف
الأندلس
....
ثم من:
كريان خليفة
كريان بنمسيك
كريان بلحسن
إلى:
كاريان لاحونا
كريان لهجاجمة
قطع ولد عائشة
الشيشان
لهراويين
....
والبقية هنا وهناك في هذه الذاكرة المكانية أو في هذا النسيان (حيث الجغرافية انتماء طبقي وحيت المسافات بينها تفاوت).
++++++++++
هذه الأسماء جميعها، بدلالاتها وبإحالاتها المرجعية تشكل مكانا واحدا:
الدار البيضاء.
تفيق في الصباح وتظل تلغو بلغوها حتى المساء، ثم تنام (هل حقا تنام)، في انتظار يوم جديد.
هنا الإسم المتعدد يمنح الدار البيضاء تشظيا ثقافيا شاسعا.
أية لغة يمكن أن يتكلمها اسمان:
كاليفورنيا... ودرب الفقراء.
والحال أنهما ملتفان على عنفوان التناقض.
في الإسم تتلخص الدار البيضاء كفسيفساء تتراكب فيه قيم عدة. وما ذلك إلا مستوى من مستويات أخرى. فالدار البيضاء تتكلم من خلال خطابات عدة، وما خطاب الإسم إلا مستوى من مستويات أخرى، كخطاب المعمار أو خطاب المكان أو المرافق العامة (المدارس، دور السينما، أماكن الترفيه، الشواطئ... إلى).
الدار البيضاء مغرب يتحول، لكن إلى أين؟
الجواب كامن فيما يختزنه الواقع من دلالات، تلك الدرة المصونة، من يستخرجها وينفض عنها غبار العتمة؟. من يفركها بلين كي يبرز لمعانها وتتضح ملامح وجهها؟. حينها فقط قد نستطيع القراءة، بعد أن نذيب ونزيل عنها حجاب التمنع.
+++++++++++
فجأة صارت الدار البيضاء..
والدار البيضاء ليست فقط هذه الغابة من الإسمنت التي نعتقد أننا ننسحق فيها يوميا، إنها تلك الأخرى التي تعيش صراعها الحقيقي، صراع القيم (في صمت). وهو الصراع المنفلت الذي يأخذنا في تقاذفات تياراته دون أن نفطن لذلك.
× هامش:
كتبت هذا النص منذ 35 سنة، نهاية سنة 1989 ونشر بمجلة "الرائد" (مجلة الشبيبة الإتحادية التي كان يرأس تحريرها الشاعر حسن نجمي) في عدد يناير 1990. أعيد نشره هنا كما هو بدون أي تعديل.