في تحية لعبد السلام أبو إبراهيم وقد عَبَر بسلام محنة المرض الذي فاجأه وهو يحرث الأمل في دروب الحياة الطويلة.
يسألك قلبك.. لو ترى الجراح التي ترَكتْ ندوبها .. لو تستمع لبرهة إلى هديرالزمن المفطور.. لو تأخذ ريشتك وتكتب ما في خاطرك.
ثم تقول له وأنتَ منشغل بعشرات الأسئلة التي تحملها على كتفيك كأنها صلوات عالقة: سأفجعك يا قلبي ..إنْ أنا تذكرت ما يملأ ذاكرتي.
لعقود طويلة.. لم يفارق عبد السلام هذه الأرض إلا معتقلا أومختطفا أو مسافرا إلى اجتماع قبل أن يعود وقد هبط الظلام ودنا الفجر.
لعقود طويلة.. أَلِف عبد السلام أبو إبراهيم هذه المدينة الصغيرة وهو يَعبُرها يوميا برأس مرفوعة وخطو سريع أو بطيء، في دروبها الضيقة أو المعقدة دون أن يمَلَ أو يشعر يوما بأنه قد ضجر منها.
لعقود طويلة.. تراقبه الأشجار والطيور، والرجال القابعون أمام عتبات حوانيتهم، أو الجالسون في المقاهي أو التلاميذ وهم يحملون أحلامهم المغبرّة في محافظ مثقوبة.. ينظرون إليكَ بذهول .. وأنتَ لا تكلّ ولا تتعب، وتعتبر كل يوم جديد فرصة أخرى للحياة والتغيير.
لسنوات شاسعة مثل الخوف الذي تدلى طويلا، دون أن يظلل مساحتنا المُشمسة، راقبتكَ أعين المتلصصين في الحوانيت الضيقة والشرفات العالية ذات الشباك الحديدي، يحملون الأقلام ويحسبون خطواتك وأنفاسك التي لا تنقطع.. لعلهم يصنعون من سيرتك الحَرَكية جلبابا يقيهم من رُعبهم الدائم. وكلما تعبوا وعجزوا، كنتَ لا تلتفتُ نحوهم لأنك منشغل بما هو أسمى.
كل إنسان في مسار حياته يخلق صورة ويراكم رصيدا... وعبد السلام أبو إبراهيم له صورة واحدة بأصوات وعيون متعددة.
لم يسعَ أبدا إلى مُراكمة العقارات والدخول في مراهنات الدنيا، ولكنه خلق رصيدا موزعا بيننا، من العفة والإيثار والكرامة وحب الوطن، وطن تسوده المعرفة والعدل والمساواة.
لذلك سيبقى عبد السلام أبو إبراهيم مدرسة لتعلم القيم الكبرى التي تصون أرواحنا من الصدأ والاهتزازات..
مدرسة في الاستقامة والنزاهة والانسجام مع النفس، عفيف كأنه زاهد أو آخر الزهاد الأمازيغ، ومحبُّ للحياة وجمالها في العمران وشروط العيش العامة.
صبور في الشدائد لم نسمعه يوما يشتكي من ضرر مسّه رغم ما تعرض له في كل ما كان يضع فيه رجليه، ولكنه يشتكي مما يتعرض له الفقراء والفلاحون والعمال في بلدنا، يشتكي مما تتعرض له مدينة سطات والتي كان من الممكن أن تكون نموذجا لمدينة قوية ورائدة تليق بتاريخها وتاريخ نسائها ورجالها.
صارم لا يغض الطرف عن أي إخلال بالثوابت، ومرن متى كانت المرونة ضرورة حتمية؛ ونحن له مدينون في شبابنا المُبكر وفي مدينة مُعتقلة في الزمان والمكان، منحنا فرصة لنكون ما نريد.. جعلنا نبصر في لحظة كان العماء وما زال منتشرا.
الآن ما زالت أحمل نفس السؤال والدهشة من رجل خبَرَته الأيام بقساوتها،كيف كان يُنصتُ لنا ونحن دون سن الرشد ويترك لنا المبادرة في الكلام والقرار. كان مؤمنا بنا بصدق فصدّقنا عقلنا، وصدّقناه.
هذه لحظة لتُصالح المدينة جزءا من تاريخها الناصع البياض، تصالج قطعة من فجرها وسبيكة من شمسها، والمدينة التي تعيش كأنها مقطوعة من حجر بعيد، لم تستطع أن تردّ ولو اليسير من دينها الذي تركه دما على أرضها مجاهدون وعلماء ومقاومون ومثقفون وأدباء، كأن الجحود بندٌ في جدول أعمالهم، كأن السلالة نار مشتعلة لا تخبو، سلالة عبد السلام أبو إبراهيم وعبد الوهاب بنعزوز والمعطي رقيب وعباس مومو ومحمد ليتيم وحسن نجمي وسمعلي سعيد ومحمد خير الدين والهادن الصغير والعربي الذهبي ومحمد المودن وعبد الكريم نور العابدين والمئات بل الالاف من سلالة القرشي بن الرغاي والفقيه الحمداوي والاحمر بنمنصور.
صديقنا الكبير .. عبد السلام أبو إبراهيم.. ابتسم واضحك فقد انتصرتَ بوجودك وأخلاقك وثباتك.
ابتسم وردد معي ما قاله المتنبي:
فصرْتُ إذا أصابتني سِهامٌ
تكسّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ
وهانَ فما أُبالي بالرزايا
لأنّي ما انتفعْتُ بأن أبـــالي
وردد معي أيضا بصوت عال ما قال حسن نجمي:
كَجُنْدِيٍّ قَدِيمٍ نَسِيَتْهُ الحَرْبُ فِي الخَنْدَقِ -
يُمْكِنُكَ أَنْ تَرْفَعَ عَيْنَيْكَ قَلِيلاً.
(حَذِراً كَأَيِّلٍ يَقْتَرِبُ مِنْ غَدِيرِ السِّبَاعِ).
لِتَتَأَكَّدَ مِنْ أَنَّ رَصَاصَ الأَعدَاءِ نَفَدَ.
وَأَنَّ الأَعدَاءَ انْصَرَفُوا.
وَأَنَّ الشَّمْسَ مَا زَالَتْ هُنَا.
وَحَدَهَا، الشمس، لَمْ تَتَخَلَّ عَنْكَ.
.. قم يا صاحبي القديم، الأسبوع القادم، سأعبر الشارع وأراك وأنتَ تنظر إلى الزمن، فأعود وأسلم عليك ونتحدث طويلا بدون انقطاع.