شعيب حليفي: نحيا في عوالم البادية ونتجاهلها

شعيب حليفي: نحيا في عوالم البادية ونتجاهلها شعيب حليفي

رئيس مختبر السرديات ونادي القلم، كاتب روائي وباحث أكاديمي ميزته دفاعه المتواصل عن الهامش بثقافته الشعبية، وفق التصنيف السابق الذي كان يضعها في درجة ثانية بعد "الثقافة العالمة".

 

شعيب حليفي الذي وهب نفسه لجعل الهامش محورا لمختلف إنتاجاته الفكرية والإبداعية، وحتى لدفاعه النقابي عن حضور اليومي في الممارسة الثقافية، يسير في طريق نفض الغبار عما يمكن تسميته بإعادة الاعتبار لـ "الثقافة الشعبية" خاصة أن المدافعين عنها يلومون دعاة "الثقافة العالمة" بإقصائها من المشهد برمته، وجعلها مجرد ملحقة ثانوية للعطاء الثقافي في المغرب.

 

وكانت صفة "الثقافة العالمة" تطلق على كل ما ينتج في الحواضر، خاصة العواصم التاريخية للمغرب مثل فاس والرباط ومراكش وغيرها، وما عداها هو ثقافة شعبية نتاج اليومي المتداول وتبقى مجرد موروث شفوي.

 

اليوم، اختلف الأمر، بعد أن أثرت المشهد الثقافي أسماء نهلت من معين "الثقافة الشعبية" وهي في الأصل أسماء تنتمي للأرياف بمفهومها الجغرافي والهامش، بتسمية المناصرين لها، والشعبية وفق منظور عتيق لم يتطور في مقابل تطور العطاء في الجهة المقابلة للحواضر، وهي الأرياف التي أعطت للمغرب كتابا ومثقفين كبارا، كلهم حلوا بالمدن الكبيرة قادمين من مدن صغيرة هامشية إلى وقت قريب.

 

المنافسة الفكرية والأدبية والإبداعية بين «العروبية» وهي تسمية تقال للبادية، وهو ما يطلق على المنتمي لها بـ "العروبي" أي البدوي، ليست معركة وجود، بل هي عطاء للتكامل، وكل يسعى في طريقه متشبثا بالانتماء للوطن أولا وقبل كل شيء، والعطاء برمته يصب في بحر الثقافة المغربية الشاسع، وبالإضافة إلى أبحاثه ودراساته وانشغالاته الأكاديمية المتعددة، أصدر شعيب حليفي مجموعة من الروايات، من بينها: "زمن الشاوية" و "رائحة الجنة" و"لا تنس ما تقول" ثم "مساء الشوق" و "مجازفات البيزنطي" بالإضافة إلى "تخمينات مهملة" فضلا عن "خط الزناتي"…

 

الحوار مع الكاتب والروائي والأكاديمي شعيب حليفي، لم يتطرق فقط لمفهومي الثقافة الشعبية ونظيرتها العالمة، وفق تصنيف سابق في المغرب عرف بأنه مرحلي فقط، بل تجاوزه إلى حديث عن اتحاد كتاب المغرب وأزمته الحالية، وعموم المشهد الثقافي حاله وترحاله ونبضه وأفقه:

 

ـ ركزت في مسيرتك الفكرية والابداعية على إظهار غنى وتنوع الثقافة الشعبية في الأرياف، أو كما يصطلح عليها في المغرب «العروبية» فهل كانت النتيجة مرضية، أم ما زالت هناك مسافات يجب قطعها حتى بلوغ محطة الإنصاف؟

كل اختيار في الحياة متصل برؤية تنمو وتتطور، واهتمامي الإبداعي والأكاديمي بالبادية وثقافاتها مردّه إلى أننا نحيا داخل هذه العوالم ونريد أن نتجاهلها، في حين أن البحث فيها هو إغناء لما هو موجود، وقد اشتغلنا لسنوات، ولم يبدأ عملنا في إعطاء ثماره إلا في السنوات الأخيرة، حينما تبيّن أن الكثير من الجغرافيات فيها ما يفيد معلومات جديدة عن تاريخنا، وأشكال ثقافية راسخة تتأبى على التصنيف، لأنها لا تنتمي إلى الأنواع التقليدية. وأعتقد أن الطريق ما زال طويلا، أمام البحث الثقافي والتاريخي والأركيولوجي، لأن المغرب، أرضا وإنسانا وحضارة ما زال غير مكتشف بشكل كامل؛ كما أن التصور الذي ننطلق منه هو عدم الارتكان إلى الموجود، خصوصا من معطيات ونتائج، في مرحلة نحن في حاجة إلى خلق دينامية جديدة في ثقافتنا لمواجهة هيمنة صناعات ثقافية واردة تريد أن تجعل منا تابعين ونسخا متشابهة، في حين لدينا ما نحقق به خصوصية ويمنح هوية مناعة ضد المحو والمسخ.

 

ـ في المغرب هناك ما يعرف بالثقافة العالمة ونظيرتها الشعبية، وهو تصنيف يرى البعض أنه ظالم لجانب كبير وثري من الثقافة المغربية، خاصة في الأرياف، كيف ترى هذه الخانات التي تم الزج بالثقافة كعطاء إنساني فيها؟

الثقافة وعاء كبير، وإلى وقت قريب كانت لا تضمُّ إلا بعض الأنواع فقط وهي المهيمنة، وأعتقد أن تقسيم الثقافة إلى عالمة وشعبية هو مرحلي للتوصيف فقط، لأن أهم التصورات والنظريات حديثة، وما زالت تتشكل، وأن البحث منبهر بهذه الثقافات «الشعبية» وغناها وتجذرها في حياة الإنسان والمجتمع، وما تحتوي عليه من عناصر يجد فيها الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع والباحث في الثقافة والأدب وغيرهم وما يُثوّر أبحاثهم ويغذيها. وأرى أن هذه الثقافة «الجديدة» ستخلق حياة جديدة للدورة الثقافية وسيزول هذا التقسيم الإجرائي لاحقا لتكون لنا ثقافة في بُعدها الإنساني.

 

ـ كثيرون قالوا إن ما يمكن العثور عليه في الثقافة الشعبية أكبر بكثير من الثقافة العالمة، وفق التصنيف سالف الذكر، ويستشهدون بمقولة يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، فهل فعلا الثقافة الشعبية مجرد نهر؟

كما أسلفتُ القول، تلك تقسيمات وتوصيفات، أحيانا غير دقيقة، أو مرحلية. فالثقافة واحدة ومتداخلة بشكل معقد، فما يسمى الثقافة العالمة ترعرع ونهض من الثقافة الشعبية في أبعادها المادية وغير المادية، ومن تفاعلات وتيارات متنوعة. مؤرخو العلوم والآداب يشتغلون على ما تراكم وحقق ما يسمى بالنص الكلاسيكي الذي تطور وفق آليات مرتبطة ومتحاورة مع النصوص التي كانت قبله، فكرية أو أدبية أو أي نوع آخر. وفي الوقت نفسه، ظلت الثقافات الشعبية حبيسة الشفاهية والتداول المتحرر من أي قواعد معلنة، ولم تجرب تدوين ذلك، وإن كنتُ أعتقد أنها كانت تتسرب إلى المكتوب ضمن الأنواع الكبرى. ألم يكن الملحون الذي أبدعه الحرفيون وأناس من عامة الشعب إبداعا شعبيا قبل أن يأخذ اسم «شعر الملحون» ويصبح نوعا قائما ومعترفا به؟ الشيء نفسه في كتابات كثيرة، أشهرها ألف ليلة وليلة والسيرة الشعبية وغيرهما.

 

ـ يقف التوثيق كسد منيع يحول دون الوصول إلى حفظ الذاكرة الشعبية، خاصة الشفهية منها، وما تكتنزه من ذخائر أشرتم إليها في العديد من الكتابات، فهل تمكنتم كمجموعة من الباحثين من تجاوز هذا الحاجز وبلوغ مرحلة متقدمة من حفظ الموروث «العروبي» بمعنى البدوي في المغربي؟

التوثيق عملية ضخمة وطويلة وصعبة ولا يمكن لفريق بحث أو حتى جامعة أن تقوم به وتنجح فيه. نحن كالذي ينبش بيديه في أرض واسعة جدا، فما نقوم به عمل محدود في المكان والزمان دون أن تكون لنا كل الأدوات لذلك. مثلا، كل مكان نتوجه إليه نكتشف فيه آثارا وحكايات عن التاريخ المحلي، الذي قد يمتد إلى قرون، كما نجد من الحكايات والأغاني بمتخيل طري. ففي بعض القرى في الشاوية، وجدنا آثارا تعود إلى ثلاثة آلاف سنة، ومرمية ترعى الأغنام جوارها ولا أحد يهتمّ لها، ويوجد هذا في أماكن أخرى وفي فترات تاريخية متباينة. ويصعب على فريق أن ينجز هذا لوحده، فما نستطيعه ينصبُّ على الثقافات المحلية وفي جزء من الجغرافية المغربية، أما الباقي والأهم فإنه مسؤولية الدولة بما لها من إمكانيات وسلطة تنفيذية.

 

ـ بعض النقاد يقولون إن الاهتمام الأول يجب أن ينصب على المشهد الثقافي برمته وليس فقط جزء منه، بمعنى أن الثقافة المغربية تعاني في السنوات الأخيرة من حالة نكوص وفق تعبيرهم، فهل توافقهم الرأي؟

كل رأي لا ينبني على دراسة علمية ودراسات أخرى مساعدة ومُحيّنَة يبقى انطباعا، وهو لا يعني أنه خاطئ، وأيضا ليس بالصائب، وإنما هو سؤال واحتمال، فمسألة أن الثقافة المغربية تعيش حالة نكوص هو تعبير غير دقيق، ففي إمكان إثبات العكس بالحجة، فما يصدر من تآليف في كل المجالات وما يحققه من أثر في تطور الأفكار وخلق النقاش (ولا أقول ما يحققه من حضور فعلي في محافل الجوائز) وأيضا ما يشهده المغرب من ندوات ونقاش في المدن والأرياف وفي الجامعات التي تنتج أبحاثا ودراسات، البعض منها يجد طريقه إلى النشر داخل وخارج المغرب. هذه فقط إشارات لها ما يثبتها، لكن ليس هذا هو الموضوع، أعتقد أن المشكل دائما يكمن في الجهة التي لها القرار الاقتصادي والسياسي، فالحاجة ما تزال ماسة في دعم الكتاب والمجلات والعمل على إيجاد سبل التوزيع (التجاري) داخل وخارج المغرب، وتطوير برامج إعلامية ثقافية في الإعلام العمومي. ففي المغرب تصدر مؤلفات في جميع المجالات وبكل اللغات، ولا نعرف عنها شيئا إلا حينما نسمع عنها من الخارج. قوة الثقافة المغربية ليس في توحيد رؤية كيفيات التناول، وإنما في طرق التناول وتنوعها الأمر الذي يخلق مجالا صحيا للحوار وصراع الأفكار.

 

ـ على ذكر المشهد الثقافي، ماذا عن أزمة اتحاد كتاب المغرب وأين موقعك كمثقف وأديب من حالته غير المستقرة؟

اتحاد كتاب المغرب جمعية تمثل المثقفين المغاربة والشعب المغربي في سياق تاريخي. الآن، الاتحاد يعاني وهو أمر غير مفصول عن السياق العام، ولم يعد يقوم بدوره المأمول، لكنني أعتقد أن جميع المثقفين ليسوا في غرفة الانتظار، وإنما يشتغلون وغير عاجزين عن أداء الدور الذي كان اتحاد كتاب المغرب يؤديه.. وهذه سنة الحياة. موقعي هو موقع كل المثقفين المغاربة الذين يؤدون دورهم ولا ينتظرون أن يفتح اتحاد الكتاب أبوابه ليكتبوا أو يعقدوا الندوات.

 

حاوره: عبد العزيز بن عبو

عن: جريدة القدس العربي