بعد الصحوة من صخب العيد الكبير بما مثله من فرح مستعار، ها هم الفقراء يعودون إلى القاع المثقل باحتداد كابوس الأسعار على خلفية واقع التضخم، وسقوط الأساطير الحكومية، بدءا بوعود الدولة الاجتماعية و شعار مخطط المغرب الأخضر، وادعاء صون كرامة المواطنين. بجوار ذلك هناك الاختلالات المرافقة لما سمي الدعم الاجتماعي للأسر الذي لم يمض على إقراره سوى أشهر قليلة حتى أوقفت الحكومة دعم بعض الأسر اعتمادا على ما تسميه "السجل الوطني الموحد" ذي المؤشر الذي بمقتضاه، تبين للسلطات المختصة، كما هو مصرح به رسميا، وجود "غش في المعطيات المدلى بها من لدن بعض أرباب الأسر".
والواقع اننا حين نسأل ساكنة القاع يجيبون بأن المؤشر قد يُسقط الدعم كلما ازدان فراش بيت المدعومين بخط أنترنيت، أو بشاشة تلفزيون، أو بدراجة هوائية أو نارية، أو حتى حين يتبرع بعض المحسنين بشقة ما تحفظ من شظف العيش المقيت...
وإذن فالفقراء وحدهم هو المسؤولون عن اقتراف جريرة الغش. بل عن كل اختلال في مشاريع البلاد. أما الأثرياء الكبار فالغش يبقى مهنتهم بعد أن تلاعبوا بصندوق المقاصة، وبعد أن اغتنوا باستثمار أرباح المحروقات جامعين بين شهوات المال والسلطة والجاه.
لرسم الصورة المأساوية لما يجري أشير إلى تصريح للكاتب العام للنقابة الوطنية للبترول والغاز ورئيس الجبهة الوطنية لإنقاذ المصفاة المغربية للبترول، أدلى به مؤخرا لأحد المواقع الإلكترونية مؤكدا بأن "من المفروض ألا يتعدى ثمن لتر الغازوال (المازوط ) 10.65 درهم عوض 12.20، وثمن البنزين (ليسانس) 12.23 درهم عوض 14.40، خلال النصف الثاني من يونيو 2024 ، حسب أسعار السوق الدولية، وبناء على طريقة الاحتساب قبل تحرير الأسعار"، معتبرا "أن كل ما فوق الأرقام التي كان معمول بها قبل التحرير، هي أربا ح فاحشة يلتهمها الفاعلون في القطاع، وبمعدل 8 مليار درهم سنويا (64 مليار درهم منذ 2016)، منذ تحرير الأسعار".
في نفس السياق، أكدت المذكرة الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط، قبل يومين، أن "تطور معيشة السكان" على ضوء نتائج بحثها الوطني حول مستوى معيشة الأسر المغربية لسنة 2022، يفيد إشارات بليغة ضمنها "أن النفقات التي تقلق أرباب الأسر خلال الأشهر 12 المقبلة هي تكلفة السلة الغذائية بالنسبة لـ24,9 في المائة، ونفقات الرعاية الصحية (19,2 في المائة)، ونفقات الملابس (12,8 في المائة)، وتكاليف النقل (11 في المائة). كما تشكل نفقات تمدرس الأطفال ونفقات التجهيزات مخاوف تهم على التوالي 9,8 في المائة و8,6 في المائة من أرباب الأسر".
لنعد إلى ادعاء "غش" الفقراء لنتساءل: من هو الغشاش الحقيقي الذي "ليس منا".
في محاولة للإجابة عن هذا السؤال يطيب لي أن أورد، في مثل هذا السياق، حكاية سبق أن سُقْتُها في إحدى تدويناتي السابقة على هذا السند، وتهم ما جرى في "ساكسونيا، إحدى ولايات ألمانيا القرن الخامس عشر، حيث أبدع تحالف الكنيسة والإقطاع والنبلاء قانونا باسم الولاية يقضي بأن تصدر الأحكام اعتبارا للمتقاضين موزعين إلى فئتين، بحسب الانتماء الاجتماعي والعائلي والطبقي.
بناء عليه، إذا كان المتهم من "الأوباش"، سارقا أو قاتلا قُطعت يداه أو قتل تماما. أما إذا كان الجاني من "النبلاء" فيمثل أمام منفذي الأحكام عند منتصف اعتلاء الشمس كبد السماء، إن كان سارقا بُترت يدا ظله الممدود حسب الشمس، وإن كان قاتلا قٌطع رأس الظل، ظله، وهلم عبثا...
هكذا تُعاقب الظلال، وبعدها ينسحب النبلاء - القتلة والسراق آمنين من الباب الخلفي لساحة القصاص".
وبعد،
من الغشاش الحقيقي، السارق أو القاتل كما حم قنون ساكسونيا؟ أم الغشاش بالمطلق ؟
ثم: من المتهم؟ ومن القاضي؟