بدون شكٍّ أنكم عرفتم لماذا عنونتُ هذه المقالة بعنوان : "محقورٌ في الداخل ومُعزَّزٌ في الخارج". ما دمتم تعرَّفتم على ما أقصد بهذا العنوان، سأدخل في صُلبِ الموضوع لأقولَ لكم لماذا الإنسان المغربي الحامل للشهادات عليا أو الإنسان المغربي المجاز أو الحامل لدبلومَي الماستر أو الدكتورة لا قيمةَ له في نظر مَن بيدهم الأمر. لماذا؟
لأن "عدم إعطاء القيمة" هذا لحاملي الشهادات العليا ليس شيئا أمطرته السماء أو حدث بمحض الصدفة. لا أبدا! "عدم إعطاء القيمة" هذا، لا هو سقط من السماء كالمطر ولا هو حدث بمحض الصدفة! إنه نتيجة لسياسات عمومية ترقيعية الهدفُ منها ذرُّ الرماد على العيون وإسكاتُ أو إخماد أصوات أصحابِ الحقوق. فلماذا أقول "سياسات عمومي ترقيعية"؟
"سياسات عمومية ترقيعية" لأنها ليست نابعةً من إرادةٍ سياسية قوية تستهدف النهوض بكرامة الإنسان المغربي développement de la dignité du citoyen marocain. بل فقط وحصريا لشراء السلم الاجتماعية la paix sociale بكيفية مرحلية.
لو كانت هذه الإرادة السياسية القوية متوفِّرة منذ الستينيات، لتمَّ القضاء على مشكل حاملي الشهادات العليا منذ عقود مضت، أو على الأقل، التَّخفيف من حدَّته.
ثمَّ هل رأيتم حزبا سياسيا واحدا وصل إلى البرلمان وإلى الحكومة، عن طريق الانتخابات، رفع شعارَ "النهوض بكرامة الإنسان المغربي" والدفاع عنه والاستماتة من أجل تحقيقه على أرض الواقع باتخاذ جميع الإجراءات التي يتطلَّبها هذا التَّحقيق على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، وبالأخص، على الصعيد القانوني. لا يوجد هذا الحزب السياسي، على الإطلاق، في المشهد السياسي المغربي la scène politique marocaine!
وهذا النوع من الأحزاب السياسية لن يوجدَ، لا اليوم ولا غدا! لماذا؟
أولا، لأن الأحزاب السياسية المغربية، بغض النظر عن تسمياتها الرنانة والمستفزة، متشابهة، لا أقول من حيث الإيديولوجيات، ولكن من حيث الأهداف. أيُّ حزبٍ سياسي مغربي، كيفما كانت تسميتُه، هاجسه الأول والأخير هو الوصول للسلطة، وبكل استغرابٍ، من أجل السلطة.
وهذا يعني أنه لا يوجد ولو حزبٌ سياسيٌ واحد همُّه الوحيد والأوحد خدمة البلاد والعباد. بمعنى أنه لا يوجد، في مشهدنا السياسي، ولو حزبٌ سياسي واحد يحمل "مشروعَ مجتمع" un projet de société يكون مِحورُه الأساسي هو "النهوض بكرامة الإنسان المغربي".
ثانيا، وما دام أيٌّ حزبٍ سياسي يتناحر مع الأحزاب السياسية الأخرى من أجل الوصول إلى السلطة وليس من أجل خدمة البلاد والعباد، ولا يحمل "مشروع مجتمع"، فكل هذه الأحزاب السياسية لا تمثِّل الشعب وإنما تمثِّل نفسَها وكل الانتهازيين المنخرطين فيها لحاجة في نفس يعقوب.
ثالثا، وهذا هو الأهمُّ، إن النموذج الذي يرتكز عليه الاقتصاد المغربي، هو نوذج ليبرالي modèle libéral، إن لم نقل لبيرالي متوحش ultralibéral. وبعبارة أوضح، إنه نموذج اقتصادي يخدم مصالحَ أقلية une oligarchie استولت على المال والسلطة، بكيفية مباشرة أو غير مباشرة. وكل سياسة عمومية صاغها سياسيون مستولون على المال والسلطة، وإن كانت تبدو، ظاهريا، في صالح المجتمع، فإنها، في آخر المطاف، تخدم مصالحَ هذه الأقلية. وهنا، تُطرَح عدَّة أسئلة أذكر من بينها ما يلي :
1.فكيف لهذه الأقلية المستولية على المال والسلطة أن تُفكِّرَ في وضع ومستقبل حاملي الشهادات العليا؟ بل إنها ترى في هؤلاء الحاملين للشهادات العليا تهديداً لوجودها، بحكم المستوى الثقافي الذي وصل إليه وعيُ هذه الفئة من الشباب.
2.فكيف لهذه الأقلية أن تجعل من "كرامة الإنسان المغربي" واحدا من همومِها؟ بل همُّها الوحيد هو تقوية وجودها ماليا واقتصاديا، أي أن يزداد نفوذها ويزداد الأغنياءُ غِنىً، لكن على حساب الفقراء! لماذا؟
3.لأن هذه الأقلية لن تفِّكِّرَ، على الإطلاق، في توزيع الثروة التي تُنتِجها البلاد، توزيعا عادلاً ومُنصِفاً. ما تفكِّر فيه هو المُماطلة لينالَ المواطنون حقوقَهم المشروعة. والدليل على ذلك، الوقتُ الطويل الذي استغرقه ويستغرقه، مثلا، تمكين أجور الموظفين والعُمَّال من الوصول إلى الأجر الأدني البيمهني المضمون salaire .minimum interprofessionnel garanti smig علما أن غلاءَ المعيشة يفرض مراحعةَ هذا الأجرَ الأدنى بانتظام. ولهذا، فكلَّ تماطلٍ في هذه المراجعة، فهو في صالح الأقلية المستولية على المال والسلطة…
والغريب والمُدهش في الأمر، هو أن حاملي الشهادات العليا المغاربة، عندما تُتاح لهم الفرصة للإقامة في إحدى البلدان الغربية، يصبحون مُعزَّزين ومُكرَّمين ويتمتَّعون، مثلهم مثلَ مواطني هذه البلدان، بنفس الحقوق وتُلقى على عاتقهم نفس الواجبات. وذلك بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، الاجتماعية، الثقافية، الإثنية ethnique والعقائدية. ما له قيمة عالية دستوريا، هو الإنسان المواطن. وكرامتُه تُعدُّ من أولوية الأولويات.
بل إن حاملي الشهادات العليا المغاربة، عندما تُتاح لهم الفرصة للإقامة في إحدى البلدان الغربية، يصبحون، بقدرة قادر، أكثر وعيا وأكثرَ تفتُّحا وأكثر إنتاجية productivité. وبفضل هذا الوعي والتَّفتُّح وهذه الإنتاجية، الكثير منهم وصل إلى مستويات عليا في مجالات المسئولية السياسية، وبالأخص، في مختلف مجالات الإنتاج والابتكارات العلمية والتِّكنولوجية. فما هو الفرق بين بلادنا والبلدان الغربية؟
هناك فرقٌ كبيرٌ بين بلادنا والبلدان الغربية. يتركز هذا الفرق في اختلاف العقليات différence de mentalités.
بالنسبة للعقلية الغربية، الإنسان المواطن هو أعلى قيمة تمتلكُها البلاد. قيمة لا تعترف إلا بالمواطنة ولا شيئا آخر من غير المواطنة. لكن المواطنة المحفوفة بالقيمات المضافة سياسياً، ديمقراطياً اجتماعياً، اقتصادياَ، ثقافياً، إبداعياً، إنتاجياً…
بالنسبة للعقلية المغربية، الإنسان المغربي (لا أقول المواطن المغربي) لا يصلح إلا للانتخابات وأداء الضرائب ومطية لوصول الأحزاب السياسية إلى السلطة. خارجَ هذه الإطارات الثلاثة، فهو نَكِرَة بما للكلمة من معنى.
ولهذا، فكل النقاشات والتَّطاحُنات والتَّناحُرات التي تحدث في البرلمان، ليست إلا مسرحية مٌتقنةُ الإخراج توهِم الناسَ بأن الأحزاب السياسية، المُشكِّلة للأغلبية البرلمانية والحكومية، وما تُصيغه من سياسات عمومية، تخدم مصالح البلاد والعباد.