بدايةً، يأتي تعبير "هؤلاء أيضاً"، كإشارةٌ مختزَلة إلى الفلسطينيين سلطةً من جهة، ومقاومةً متعددةَ المشارب والولاءات من جهة ثانية. ولكل من الفئتين مقامُه ومقالُه الخاصُّ به لكن، مع الاستحضار المُلِحّ للمبدأ المغربي، الذي بدأ "ملكياً صِرْفاً" عند ظهوره، ثم انتهى بتحوّله إلى "ثابت مغربي وطني" يُجمع المغاربة عليه بدون مُواربة، باستثناء قلة جد قليلة إلى درجة النُّدرة، من خونة الداخل والخارج على السواء...
هذا المبدأ، ليس سوى ذلك المنظار الذي وضعه جلالة الملك على أعيننا جميعاً، وبمباركة منا نحن المغاربة، والذي يدعونا إلى غربلة وتصنيف الدول والهيئات والمنظمات والجماعات والأفراد... وكل الأجانب بلا استثناء، أصدقاء وشركاء، على أساس مواقف هؤلاء فُرادى أو جماعات من قضية وحدتنا الترابية...
معنى هذا أن الفلسطينيين، الذين يُشار إليهم في هذا المقال، وَضعوا أنفسهم في مُواجهتنا من حيث يعلمون ويقصدون، لأنهم على بيّنة من ذلك المنظار المغربي المُجمَع عليه، والمتضمَّن في خطاب ملكي تم نشره وبثه على أوسع نطاق...
لقد وضعوا أنفسهم في صف وخندق أعداء وحدتنا الترابية، وبالتالي فقد صنّفوا أنفسهم بأنفسهم في خانة الخصوم سواء أردنا نحن ذلك من منطلق غضبنا لكرامتنا وسيادتنا، أو أبيناه من منطلق طيبوبتنا الزائدة، التي وصلت أحيانا إلى حدود الماسوشية واستملاح الغدر والأذى، وهما يصيباننا على أيدي مَن نقدّس نحن قضيتهم أكثر منهم هم أنفسهم، معتبرين ذواتِنا في بعض المواقف فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، خارجين في مناسبات غير قليلة إلى شوارعنا الهادئة لنحوّلها إلى أمواج هادرة وصاخبة وغاضبة، من أجل سواد عيون أهالي المدن الفلسطينية التي صار أطفالنا يعرفونها بأسمائها أكثر من معرفتهم ببعض جهات وطنهم ومدنه وأقاليمه!!!
مناسبة الخوض في هذه الخواطر الفارقة، أننا فوجئنا وصُدِمنا، بمجرد صدور الاعتذار الإسرائيلي الرسمي عن ظهور خريطة وطننا منقوصة الأطراف بين يدي رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، وبمجرد تصحيح الإدارة الإسرائيلية لجميع الخرائط المغربية والعربية المركونة في رفوفها حتى لا يبقى فيها أدنى وجود لخريطة المغرب غير المكتملة، كما أكدوا ذلك في بلاغ رسمي صادر عن رئاسة الحكومة... أقول، بمجرد صدور بلاغات الاعتذار والتصحيح الرسمية هذه، خرجت علينا السلطة الفلسطينية، انتبهوا جيداً: السلطة الشرعية بشحمها وإدامها المتناميَيْن بأموال ومساعدات ومقدراتٍ مغربية يُجزي المغرب عطاءها بطيبة قلبٍ، وعن طيبِ خاطِر، حتى يتسنى لأعضاء قيادات تلك السلطة أن يُقيموا أثناء حلّهم وترحالهم وفي جميع جهات المعمور في الفنادق المصنفة بالخمس والستّ نجمات، ويتنقّلوا جوّاً على متن طائرات خاصة، وبَرّاً في سيارات فخمة فارهة تأسّياً بنجوم السينما وكرة القدم والملاكمة الاحترافية العالميين، وحتى يتيسّر لهم، كما هو واقعهم فعلا وليس قولاً فحسب، أن يتناولوا في وجبات فطورهم الصباحي تورتات الكافيار، وشرائح كبد الإوزّ مختلفة النكهات والألوان، ويشربوا نَخْبنا نحن المغاربة ومعنا دول عربية أخرى لا تقل عطاءً وسخاءً... وحتى يتسنى لهم أن يُلحِقوا أبناءَهم وبناتِهم بأرقى الجامعات والمعاهد في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، مشيَّعين ومصحوبين بحسابات بنكية خصوصية لا تُلامِس خواطرَنا حتى في الأحلام!!!
كنت أقول، هؤلاء الفلسطينيون القادة، في السلطة والقطاع، هم الذين خرجوا علينا، قبل ساعات فقط، بخريطة وطننا منزوعة من صحرائها، التي قدّم المغاربة من أجل استرجاعها دماً غالياً لا نرضى أن نُعادِلَه نحنُ المغاربة بأي دمٍ في أي بلد آخر من هذا الكوكب، وأنفق المغاربة في سبيل ذلك أكثر من سبعٍ وستين سنة من النضال في كل الساحات والمَحافل، ونظّموا لأجل تثبيته مسيرةً خضراءَ ستظل فريدة ومنفردة في تاريخ الإنسانية الحديث... فما الذي يريده هؤلاء الفلسطينيون، الذي تعنيهم هذه الإشارة، علما بأنهم لم يحاولوا إلى حد الساعة أن يعتذروا عن ذلك ولا حتى على سبيل جبر الخاطر؟!!
نعم، نحن نتحدث هنا، للأسف الشديد ولسوء الحظ، عن سلطة شهِدت ميلادَها في مؤتمرات احتضنها المغرب، ولقيت الاعتراف بها عالمياً وأُمَمِياً في مؤتمر شهدته الرباط خاصة، وأُنشِئت إسلامياً لتمويلِها وتمويل أنشطتها وتموين بعض مدنها ومخيماتها لجنة يرأسها ملك المغرب شخصياً، تتمتّع ببيت مال يخضع للإشراف الملكي الشخصي والمباشر، يُسْهِم الملك شخصياً في ميزانياته السنوية بنصيب الأسد بلا ادنى مزايدة أو مِنّة، فضلا عمّا يقدمه المغرب بين الفينة والأخرى من مساعدات سخية، بلا أدنى مِنّة أو فخر هي الأخرى، من مساجد، ومستشفيات راسية، وأخرى ميدانية متنقلة، ومن مساعدات ومساهمات من كل الأشكال والأنواع، وليست ببعيدة عن هذا الآطار ذاتِه، مبادرةُ المغرب قبل أي بلد عربي أو إسلامي آخر إلى إيصال الإغاثات والنجدات إلى غزة والقطاع في عزّ الضرب والحرق والقنبلة، ليس جواً فقط، كما فعل بعض البلدان الأخرى الشقيقة والصديقة، بل عن طريق البرّ رغم إقفال مَنافذه بالقذائف والصواريخ وبكل أشكال الجهنمية الأرضية الأخرى، ليبقى المغرب البلد الوحيد الذي نجح في ذلك المسعى إلى غاية يوم الله هذا... أما كيف تسنَّى له ذلك؟ فبفضل علاقاته المتزنة والبراكماتية مع إسرائيل، وهي العلاقات التي لم تؤثر سلباً بأي شكل من الأشكال في الدعم المغربي المتنامي للقضية الفلسطينية، في أفق حل الدولتين، الذي أبدعته الشقيقة العربية السعودية، بل بالعكس من ذلك، أسهمت تلك العلاقات في تذليل صعاب كثيرة لم تستطع تيسيرَها أيُّ دولة عربية أخرى مُطبِّعة!!!
مرة أخرى، نحن نتحدث عن تلك السلطة الفلسطينية، التي يتعشى رئيسها ويقضي أمسياتِ سَمَرِه في بيت وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي لا يفتأ يتلقّى زيارات ذلك الرئيس بعد كل رحلة يقوم بها لأي بلد من بلدان المعمور، ليقدم له تارة تقاريرَ عن ماجريات زياراته ورحلاته ومباحثاته، ويناوله تاراتٍ أخرى نصيبه من المحفظات السمينة والثقيلة التي يتلقاها رئيس السلطة الفلسطينية ذاته من الأنظمة المانحة والداعمة عربية كانت أو مسلمة أو غيرها... ووسائل الإعلام العربية والإسلامية والغربية والآسيوية تزخر بتقارير عن كل تلك الأنشطة وعن أخبار تلك العلاقة الحميمة بين القائدين المذكورين، الفلسطيني والإسرائيلي، وحدّث في ذلك كله ولا حرج!!!
ثم يأتي دور المقاومة الفلسطينية، وحركة حماس بصفة خاصة، لنتذكّر معاً كيف أن قياديي هذه الحركة زاروا في مرات متكررة مخيمات العار في تيندوف المحتلة، وأبدوا تعاطفاً مفرطاً مع أطروحة الانفصاليين، إلى درجة جعلت بعضهم يساوي ويماثل بين البوايساريو وحماس، وبين القضيتين، الفلسطينية والصحراوية المفتعلة... ويالها من بجاحة، لمجرد الحصول على فتات البترودولار الجزائري، الذي يغرف منه لصوص المراديا ويغدقون منه على كل مَن يُغازل صنيعتهم البوليساريو، على حساب شعب جزائري يعيش معظمه تحت مستوى خط الفقر، لكي يتسنى "لشماكرية" البوليساريو أن يعيشوا عيشة لا تقل وجاهة وبذخاً عن عيشة قادة المقاومة الفلسطينية المفترَى عليها سالفي الإشارة!!!
والحال أن موقف قيادات حماس وأمثالها لم تعد تهمنا في شيء ليقيننا بكونهم مجرد دُمى من القش في أيدي المخابرات الإيرانية، التي تموّلهم وتغذيهم وتسلحهم وتوجههم لقضاء مآربها التي لا تخفَى على أحد... ومن الطبيعي أن يكون موقف هذه القيادات من قضيتنا الوطنية عدائيا، كرد فعل بديهي إزاء رفضنا الدائم تركَ المجال لحكام فارس لكي يُوسِعوا تَوَغُّلاً في جغرافيا البلاد العربية، ولكي يُثخنوا في تدخلاتهم الفاضحة في قضاياها الداخلية، فضلا عن الخلفية العقدية التي تجعلنا معهم على الدوام على طَرَفَيْ نقيض، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها!!!
كل هذا في واد، ولكن إساءة السلطة الفلسطينية الرسمية لخريطتنا، ومن خلال ذلك لقضية وحدتنا الترابية في واد آخر، ولا مجال للجمع بين الأمرين، ولا شك أن ما سقناه أعلاه كافٍ لتبيان ذلك والدلالة عليه وزيادة...
ومرة أخرى، ما الذي يريده هؤلاء الفلسطينيون المسيئون إلى قضيتنا المصيرية والتي دون المساس بها أنفسُنا وأولادُنا وأموالُنا وكلُّ شُريانٍ نابضٍ فينا... ماذا يريدون منا أن نفعل لهم أكثر مما فعلناه، غير أن نراجع تقديراتنا وننظر إليهم من خلال ذلك المنظار المبدئي، الذي لن يظهروا من خلاله إلاّ في جُبّةِ أعداء؟!! ماذا يريد هؤلاء إذَنْ؟!!
من يُجيبني بالعقل والمنطق وبلا مُحاباة؟!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي