يحكى أنه في الماضي القريب، وفي زمن ليس بالبعيد، كانت رسالة المحاماة شامخة كالجبال بنقبائها وقيادمتها، قديمة كالتراث بأعرافها وتقاليدها، بيضاء مضيئة كالشمعة وسط سواد الليالي، فكانت وسط كل هذه المحاسن متزينةً بمرافعات قيادمتها، بديعة ببديع ياقاتهم، وزئيرِ أصواتهم، وهمة هيبتهم، وسموِ شخصيتهم، وفصاحةِ لغتهم، ومحسنات بلاغتهم، وقوة مواقفهم وتداخلاتهم, وحصانة أقوالهم، تماما كشعراءِ الزمن القديم لغةً، ورؤساء الدول الكبرى شخصيةً، وفصاحةِ المناطقة خطاباً؛
أيام كانت فيها المسطرة الشفوية أصل أصيل، والمسطرة الكتابية استثناء عسير لا يقاس عليه، فكان المحامي يشد مئزره، يحمل صندوق عجائبه (محفظته)، يرتدي بذلته، ليُجهز ملفه ويبدأ مرافعته الجياشة، فكان المحامي المتمرن بالتبعية يجلس متعلماً، متشوقاً، مستفيداً، مالئا يديه كلاهما، الأولى بالوثائق الإجرائية، والثانية بمذكرته العلمية التي لا تفارقه، فيُدون فيها تلك المرافعات، ويقتبس الكلمات المعطاءة، والألفاظ الرنانة شكلا، ثم الخلاصات القانونية والتحليلات النصية موضوعا، فتارة يدون مقدمة رنانة من مقدمات المرافعة، وتارة يدون تحليلا لركن من أركان جريمة، وتارة يدون توجها قضائيا فريدا.. وقس على ذلك، ليخرج من الجلسة سعيدا فرحاً مسرورا، تماما كما يخرج الطالب من مدرجات الجامعة بعد حصة شيقة.
أيام كانت تروج أمام المحاكم ملفات كبيرة يرافع فيها القيادمة والمبدعين، فكانت القاعة 1 بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، مسرحاً لتفجير المواهب، وفضاءً لإخراج الطاقات وتَخّرجِ الكفاءات، فيحج المحامون من كل حدب وصوب، ليستمتعوا بمرافعات هيئة الدفاع، كيف لا ويُروى أن مرافعاتهم كانت مدرسةً في البلاغة، وعلمًا في الخطابة، وفقهًا في الفصاحة، لغةٌ سليمة، تتخللها شخصية عظيمة وصوت رنان راقي، تماما كصوت أشهر الفنانين، لا فرق بينهما إلا أن الفنان يُخرج الأنغام الموسيقية، والمحامي يتغنى بالقواعد القانونية والفقهية، فيندهش المخاطَبُ لقوةِ المخاطِب.
فإذا كان هذا تُراثٌ نفتخر به، وعِلمٌ يُنتفع به (نسأل الله أن يُكتب في ميزان حسنات قيادمتنا) فإنه اليوم في ظل التحولات الرقمية واتساع نطاق المساطر الكتابية وكثرة الملفات، انقلب الأصل إلى استثناء والاستثناء إلى أصل، فشاعت المساطر الكتابية واتسعت، وقَلت المرافعات الشفوية وانتكست، فحُرِم بالتبعية هذا الجيل جديد من كل المحاسن السالفة البيان، فاقتبسوا بدعةً سيئة لا أساس لها، وحرموا من سُنةٍ حسنةٍ لها ما لها من تاريخ عريق.
فرجاءً يا قيادمة المهنة وأساسها، هو جيل جديد يناديكم ويشد على أياديكم، يلتمس مساعدتكم، يأمل في رجوعكم، يستنجد بتشجيعكم، ويطمح في اقتفاء أثركم.. فلبوا النداء وأنقذوا جيلا هو والشغف سواء بسواء..