وفي قراءته لبعض فصول القانون الجنائي، وخاصة الفصول من 489 الى 493 منه، محمد الساسي، أستاذ بكلية الحقوق-جامعة محمد الخامس- أكدال- على أهمية الفصل بين النقاش القانوني والنقاش الفلسفي، وهو ما يظهر جليا في عدد من المواقف المعبر عنها بمناسبة مراجعة القانون الجنائي، بين اتجاه أول يؤكد على أن رفع التجريم عن العلاقة الجنسية الرضائية بين الراشدين، هو أمر مرفوض فلسفيا ودينيا، وبين اتجاه يعتبر ذلك ممارسة للحرية فيطالب بحذف النص.
وأضاف المتحدث ذاته: "أحيانا نتجاهل المنطق الخاص للقانون، وهو لا يتطابق دائما مع المنطق الفلسفي والقانوني"، مستعرضا في هذا المجال عدة اختلالات تثيرها هذه المواد، من قبيل استعمال المشرع لعبارة "الفساد" التي لا علاقة لها بالوصف القانوني للفعل، على خلاف مواقف تشريعات أخرى استعملت عبارة "الزنا"، مشددا أن عددا من قوانين الدول العربية والإسلامية تجنبت أساسا تجريم العلاقات الجنسية الرضائية بين الراشدين، رغم تنصيص دساتيرها على هويتها الإسلامية مثل (مصر في قانون 1937، والجزائر في قانون 1966، وتونس في قانون 1914، والعراق في قانون 1969، والإمارات العربية المتحدة في قانون 1970، وسلطنة عمان في قانون 1974، وبلدان أخرى..)، باعتبار ما يطرحه هذا الأخير بغض النظر عن نوع التقييم المعياري الذي يقدمه.
محمد الساسي أكد أيضا على ضرورة الفصل بين المجال الخاص الذي يبقى شديد الارتباط بخصوصية الإنسان، والفضاء العام الذي يفرض ضرورة مراعاة مجموعة من القواعد للعيش المشترك، ودعا في نهاية المداخلة الى حذف الفصول من 489 الى 493 من القانون الجنائي، والاكتفاء بالامكانيات التي يتيحها الفصل 483 المتعلق بالإخلال العلني للحياء والذي يبقى كافيا لحماية الفضاء العام من كل مظاهر الاخلال به.
من جانبه، قد أنس سعدون، دكتور في القانون، عرضا يحمل عنوان: تقاطعات في حماية الحق في الحياة الخاصة، انطلق فيه من بيان الأهمية التي أضحى يحتلها هذا الموضوع في النقاش العمومي أمام التحديات التي تفرضها التحولات التكنولوجية، والعلمية ومن آخرها ما يطرحه الذكاء الاصطناعي من تحديات مستجدة.
واعتبر المتحدث ذاته أن الواقع في كثير من الأحيان يؤكد أنه أصبح يتجاوز النصوص القانونية، رغم لجوء المشرع في كل مرة إلى إدخال تعديلات تشريعية متعددة، معتبرا أن حماية الحق في الحياة الخاصة لا تستوجب بالضرورة تدخل المشرع الجنائي، إذ أنه يمكن توفير الحماية من خلال قواعد المسؤولية المدنية القائمة على التعويض، فضلا عن الأدوار التي تقوم بها اللجنة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية، مؤكدا على أهمية مراعاة البعد الحقوقي في المعالجة القانونية لقضايا الحياة الخاصة.
واستعرض المتدخل عددا من الأحكام القضائية الصادرة عن مختلف المحاكم المغربية في مجال حماية الحق في الحياة الخاصة، من بينها "حكم المحكمة الإدارية بالرباط الذي اعتبر أن "تضمين شهادة عمل موظف، ملاحظة تشير إلى غيابه بسبب مضاعفات مرضه، يشكل مساسا بمعطياته الشخصية الحساسة، مما يبرر تدخل دور القضاء الاستعجالي لرفع هذا الاعتداء المادي"، وحكم المحكمة التجارية بالدار البيضاء بأداء شركة للإنتاج تعويضا لورثة فنان مشهور عن الضرر الذي لحقهم عن انتهاك حرمة حياتهم الشخصية، وأكدت المحكمة أنه بعد اطلاعها على سيناريو المسلسل، ومشاهدة أربع حلقات منه، تبين لها أنه تطرق أيضا لحياة شخصيات بعض المدعين، وهم المدعية والدة الفنان الراحل، و أخواته، وكذا صهره زوج أخته، وهو ما يعد انتهاكا للفصل 24 من الدستور الذي خول لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة. وحكم المحكمة الابتدائية بالقنيطرة الذي قضى باستبعاد محضر، بسبب عدم شرعية الدليل الجنائي بعد قيام ضابط أمن بتفتيش هاتف أحد المشتبه فيهم وقراءة الرسائل النصية دون أمر قضائي، وحكم المحكمة الابتدائية بالرباط بإدانة متهم من أجل جنحة تصوير شخص بدون اذنه طبقا للفصل 447 من القانون الجنائي، ومعاقبته ب 6 أشهر حبسا موقوفة التنفيذ، وغرامة نافذة قدرها 2000 درهم، بعدما تقدمت المشتكية بشكاية للشرطة تعرض فيها بأنها والمتهم يتابعان الدراسة بنفس المؤسسة، وبأنه تعقبها في الترامواي، وقام بالتقاط صور لها، دون إذنها، ونشرها في حسابه الفيسبوكي، مما تسبب لها في ضرر نفسي كبير، واعتبرت المحكمة أن اعتراف المتهم بالتقاطه صورة لزميلته ونشرها والتعليق عليها عبر موقع التواصل الاجتماعي دون اذنها، يجعل المنسوب اليه ثابتا، ونظرا لكونه يتابع الدراسة الجامعية، وحداثة سنه، وانعدام سوابقه القضائية قررت تمتيعه بظروف التخفيف، وجعل العقوبة موقوفة التنفيذ في حقه".
من جهة أخرى تطرق الدكتور أنس سعدون إلى عدد من الإشكاليات التي تثيرها مشاريع تعديل القوانين من أبرزها مشكل تضمين معطيات تتعلق بالحياة الخاصة في صلب الأحكام القضائية في الجزء المتعلق بالوقائع، رغم ما يسببه ذلك من احراج لأطراف الدعوى، بعد تسلم نسخ من الاحكام القضائية، باعتبار أن هذه الأحكام قد يطلع عليها الأغيار عند تقديمها أمام الإدارات، مقترحا ضرورة حذف الوقائع من صلب الأحكام القضائية خاصة في قضايا الأسرة، كما تطرق أيضا الى إشكالية عدم احترام الحق في خصوصية الضحايا في بعض المحاكمات الزجرية بما في ذلك قضايا الأحداث لأن السرية مفروضة حينما يكون الحدث متهما، ولا تكون مفروضة حينما يكون الضحية طفلا، وهو ما يؤدي في بعض الأحيان الى انتهاك الحق في خصوصية الضحية الحدث، كما يطرح اشكال آخر على مستوى السرية التي قد تأمر بها المحكمة خلال جلسة المحاكمة وما اذا كانت تقتصر على جلسة الاستماع الى الشخص الذي قررت السرية لمصلحته، أم تمتد أيضا لجلسة المناقشة ولمرافعات الدفاع، مؤكدا ضرورة استحضار أخلاقيات المهنة التي لا تقل أهمية على مقتضيات القانون.
وتوقف القاضي ياسين الكريبص في مداخلته، عند حماية الحياة الخاصة في ضوء المعايير الدولية لحقوق الإنسان، تناول خلالها أهمية هذا الحق في الاعلان العالمي لحقوق الانسان، والعهد الخاص بالحقوق المدنية، والسياسية، وغيره من الصكوك الدولية ذات الصلة.
وفي هذا الإطار، أبرز المتحدث ذاته معايير حماية الحياة الخاصة الورادة في توصيات اللجان الأممية، لا سيما في بعض التعليقات العامة الصادرة عن اللجنة المعنية بحقوق الانسان، علاوة على توصيات المقررة الخاصة المعنية بالحق في الخصوصية. وخلص المتدخل إلى التذكير بمكانة الاتفاقيات الدولية في التشريع الوطني.