كانت في كل مجتمعات العبودية، فئة كبيرة أو قليلة العدد، حسب قوة حضارة ما أو ضعفها، تقوم بأعمال غير أعمال العبيد التي كانت تنحصر أساسا في الفلاحة والأعمال الشاقة وفي خدمات المعابد والقصور والمنازل الكبيرة. هذه الفئة القليلة العدد كانت تقوم بالبناء والنجارة وصناعة الأسلحة والحدادة وبناء السفن، وهي أعمال تتطلب شيئا من المهارة والابتكار أكثر مما تتطلبه الأعمال التي يقوم بها العبيد. هم أحرار ليسوا من موظفي الدولة ولا خدام تابعون للأسياد ولا هم من المحاربين وإن كانوا يحملون السلاح عندما يكون البلد مهددا بالكامل ليدافعوا ضد الغازي.
يقومون بالعمل في ورشاتهم عندما يطلب منهم عمل بسيط مثل صناعة سيف أو تركيب عجلة عربة.. لكن كثيرا ما تجمعهم الدولة أو السيد أو كاهن طوطمي لتشييد بناء أو معبد أو بناء سفينة.. مثل ما يتبين من لوحة العمال جانبه في منشأة لصنع السفن بمصر يعود تاريخها إلى 4369 سنة قبل الآن. ورغم أن هذه الفئة ليست من العبيد فإن أعمالها محتقرة في عدد من الحضارات تقارب شيئا ما احتقار عمل العبيد وخاصة في حضارة الرومان.
كان هؤلاء "العمال" يتلقون أجورهم بالنقد في بعض الحضارات عند الإغريق والرومان مثلا، ولكن في الحضارة المصرية القديمة كانوا يتلقون الأجر عينا. وهذا الاختلاف يستدعي تناول اختلاف جوهري في الحالتين، نابع من كون الحضارة المصرية القديمة ليس لديها عبيد بكل معنى الكلمة، الأسرى هم عبيد لكن الفرعون يلجأ بسرعة إلى توزيعهم على المناطق ليدمجوا في نشاط المجتمع في الفلاحة الشاقة والرعي والجيش وشق الطرق، ولم تبدأ العبودية في الظهور في مصر إلا مع غزو الهكسوس وفارس وتسرب الحضارة الإغريقية.
غياب العبودية الحقيقية من حضارة مصر القديمة تثبته العديد من اللوحات التي تسجل نشاطا ما يظهر القائم به مواطنا مصريا مثل اللوحة جانبه لشاب راع للماشية، لأحد الأسياد أو لمعبد ما تعود إلى 3374 سنة قبل الآن.
في شمال إفريقيا مع الأسف لم تعط أهمية كبيرة لتخليد أنشطة الناس ولكن اللوحات الصخرية في الصحراء وفي الأطلس وفي شمال المغرب تبين أن من يقوم بالرعي والصيد هم السكان أنفسهم وليسوا عبيدا، ويمكن لنا أن نستعين باللغة لنكمل الخصاص الحاصل، ونؤكد بذلك على أن مصر وإن عرفت شكلا طفيفا من العبودية فإن شمال إفريقيا لم يعرف العبودية قط قبل الفينيقين والرومان، فالكلمات الأمازيغية التي صيغت مع العصور التي عرفت العبودية من الفينيقيين، وما تلاهم نجدها كلمات حديثة بعد الفينيقيين ولا تحمل معنى الملكية مثلا : "أسوقي" وهي إحالة على السوق أي الذي يباع في السوق، "أبقي" هي إحالة على الآبق أي الذي يهرب، "أفاتار" من فعل إفتر أي الذي يخرج بسرعة عن السيطرة، "اسمك" (g) أو "اسمغ" أو "اسمخ" على حسب اللهجة هي إحالة على سنغاي، أي على دولة جنوب الصحراء وهي مالي حاليا تم قلب النون ميما ليسهل النطق.. لا يمكن أن يجد المرء كلمة تدل على ملكية شخص لرقبة آخر ولا تقابل كتضاد بين السيد والعبد بل تنحث من مكان أو من صفة لا تمييز فيها، وحتى في مصر التي عرفت أشكالا شبيهة بالعبودية نجد كلمة عبد هي "بوك" bouk وتعني مدبوغ الجلد والجمع "إبوياك" وهو أحد أوزان الجمع في الأمازيغية، وهذا التلاقي بين المجتمع المصري القديم والمجتمع في شمال ادإفريقيا لا ينحصر في ما ذكرته لأن حركة السكان بين المنطقتين مفتوحة على مر الزمن، وأتعجب لمن يحاول أن يبحث عن التلاقي مع أقوام من آسيا أو من أوروبا ويتجنب البحث عنه مع الجار !، اليوم دار آثار بلندن تعلن بيع جماجم للعموم سرقت من طرف منقبين عن آثار في غرب مصر، ولا أحد تحرك من شمال إفريقيا وكأن الامر لا يعنيهم، مع العلم أن تلك المنطقة وكذا الدلتا، وكما أثبت التنقيب الحديث، عمرها سكان من شمال إفرقيا لآلاف السنين وحتى قبل العصر الحجري الحديث.
من هنا نفهم أن من يقوم بأعمال الصناعات في مصر وشمال إفريقيا يتمتعون ببعض الاعتبار أكثر من غيرهم في حضارات أخرى ذات العبودية القوية بسبب غياب تام أو شبه كامل للعبيد، الشيء الذي يعطي للناس الذين يقومون بأنشطة إنتاجية مكانة حاسمة في المجتمع، في حين أن الحكام في المجتمعات الأخرى تضمن بالعبيد سير النشاط الإنتاجي الفلاحي والشاق عند توقف أنشطة الصناعات لسبب من الأسباب. هذا رمسيس الثاني كتب على لوحة في جدار معبد أيونو الجمل التالية موجهة لعمال المحاجر: "ملأت المخازن بجميع الفطائر واللحوم والكعك لتأكلوها، وأنواع العطور لتتعطروا كل عشرة أيام، وصنادل لتنتعلوها كل يوم، وملابس تلبسونها طوال العام، عينت لكم رجالا يحضرون لكم الطيور والأسماك وآخرون يحسبون لكم كم هو مستحق لكم، أمرت بتشييد ورشة فخار لكم تصنع لكم الأواني ليظل ماؤكم صافيا طوال الصيف، ومن أجلكم تبحر السفن من الجنوب ومن الشمال تحمل لكم الشعير والقمح والحبوب واللحوم والملح والخبز". وكتب مسؤول ضيعة كبيرة اسمه "منى" الكلمات التالية كما جاءت في موسوعة الحضارة المصرية القديمة لسليم حسن من عصر الأسرة الرابعة، يقول إنه كافأ بسخاء كل من ساهم في بناء وزخرفة مقبرته: "لن يندم أبدا كل من ساهم في بنائها، سواء كان فنانا أو قاطع أحجار، لقد أعطيت كل شخص مكافأته".
ويؤكد قاض، من عصر الأسرة الخامسة، نفس ما سبق في نص آخر يشير إلى احترام العمال كما يلي: "جميع من عملوا في هذه المقبرة نالوا أجرهم بالكامل من خبز وجعة وملابس وزيت وقمح بكميات كبيرة، كما أنني لم أُكره أحدا على العمل".
على ماذا يقوم الأجر في المجتمعات العبودية؟ - أولا، ينظر السيد والحاكم إلى العامل بكونه فردا يقوم بعمل محدد وهذا يحيلنا على الخطاب الحالي القائل أن الاجر مقابل العمل والذي يريد أن يتنصل من أسس الأجر في الرادأسمالية والذي هو متقدم على ما سبقه. - ثانيا، لا يرتبط العامل بالدولة ولا بمؤسسة ولا منشأة بل هو كامل الحرية في عمله. - ثالثا، لا يهتم الحاكم والسيد بتجديد قوة العمل ونشاطه على عكس أسس الرأسمالية التي تعدت تجديد القوة العضلية والذهنية إلى قوة الذكاء والمعرفة.
في الدول التي لم تكن عبودية حقيقية نجد دور هذه الفئة في نشاط المجتمع قويا وهي كثيرة العدد، وتختلف عن أوضاع الفئة السابقة في مجتمعات العبودية الكاملة وبدأت فيها الإرهاصات الأولى لتعامل معاملة قريبة من موظفي الدولة، أي ربط العامل أو المستخدم بمكان العمل.
في مصر ولأن العبيد شبه منعدمين يهتم الحكام بأسرة العامل، أي بتجديد قوة العمل من أسرته، ولأن مصر معروفة بالأعمال التي تدوم مدة طويلة كان العمال مرتبطين بمنشأة أو بحاكم أو بمعبد لمدة طويلة من الزمن ولا يضطر أي حاكم أو غيره لجمعهم من الموقف كل صباح.
هذه الفئة من اليد العاملة لها تاريخ طويل جدا وقد استمرت في كل أساليب الإنتاج حتى في الرأسمالية، لكن في الرأسماليات التي تشبعت مجتمعاتها بالليبرالية استطاعت أن تدمجها وتدفعها إلى إنشاء ورشات صغيرة فردية أو أسرية، وفي البلدان الأخرى ما يزال يصادفهم المرء في ما يسمى الموقف، مثلا في المغرب يصلحون الكهرباء وأنابيب الماء ويصبغون ويرممون بعض الأعمال البسيطة في البناء.
لابد من الإشارة ادإلى نقطة مهمة وهي أنه في كل الحضارات سواء مصر أو غيرها كان موظفو الدولة مرتبطين بالدولة ويسعى الحكام دائما لتجديد قوة عملهم وذكاءهم ومعرفتهم، بالاهتمام بهم وبأسرهم وعائلاتهم أساسا من الأسر العريقة في خدمة الدولة، وهذا المعطى إرهاص أولي أخذت به البورجوازية كي تربط العامل بالمصنع بدل البحث عنه يوميا وجلبه من الموقف.
وسيتعجب القاريء أنه في المغرب والبلدان الإسلامية، على عكس الدول الرأسمالية الحقيقية، نجد أن الدولة تهتم كثيرا بتجديد قوة عمل وذكاء ومعرفة خدامها اهتماما منقطع النظير ويدخل ضمن هذا الاهتمام أعضاء البرلمان، ولهذا نجد أنها تستطيع أن تقبل أداء أجر ضخم بالملايين لوزير سابق خارج الخدمة ليجدد قوة عمله ونشاطه وكذا أسرته وتنازع في أجرة عامل لأيام معدودة. وهذه الثقافة هي استمرار لثقافة علف الخدام من ثروة البلاد التي لم يتم القطع معها، لأن المجتمع المغربي لم يعرف ادأية ثورة اجتماعية، إذ أن كل جديد يأتي لينضم إلى القديم في تراكم غريب، وإذا ما تم التخلي عن اجراء ما في التاريخ لفساد أثره وضرره يتم استجلابه من قمامته قسرا وبسرعة.