ليس الاتجار بالبشر جريمة ترتبط بجعرافية ما، بل جريمة عابرة للحدود يعاني منها حوالي 30 مليون شخص عبر العالم. ورغم أن المغرب أولى اهتماما ملحوظا لبعض تجلياتها منذ خمسينيات القرن الماضي، فإن الاهتمام الرسمي والقانوني بها بوصفها جريمة مكتملة الأركان ومعقدة الأبعاد لم ينطلق بالفعل إلا مع نهاية التسعينيات من القرن الماضي، خاصة مع تنامي ظاهرة "الحريك" إلى أوربا على متن قوارب الموت، وما ارتبط بها من استغلال «مافيا التهجير»، على المستوى المحلي والدولي، لظروف المهاجرين المغاربة وأفارقة دول الساحل جنوب الصحراء.
لقد انتبهت السلطات المغربية إلى ثقل جريمة الاتجار بالبشر، خاصة أنها تحولت إلى نشاط اقتصادي إجرامي منظم، يعمل على استغلال الأشخاص ماديا ومعنويا، ويشمل الرجال والنساء والأطفال على حد سواء، ويقع ضحايا الاتجار بالأشخاص تحت رحمة المافيات التي تستعمل الخطف أو العمالة القسرية أو الاستدراج الممنهج لممارسة أشكال من الأشغال المهينة والحاطّة بالكرامة. بل إن معظم العمليات المرتبطة بالاتجار بالأشخاص أو البشر تتوارى خلف ستار أنشطة مشروعة يصعب اكتشافها أو تتبع تحركاتها أو ضبط المتعاملين فيها، من قبيل بعض وكالات الأسفار أو التشغيل أو بعض مراكز التجميل أو ممارسة الرياضة، أو بعض المراكز الطبية «تجارة الأعضاء البشرية»، أو حتى بعض النقابات الفنية التي تمنح بعض الفتيات شهادات فنية مزورة لتسهيل «عملهن» في تركيا وفي بعض دول الخليج.. إلخ.
لقد صادق المغرب على مجموعة من الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية (11 اتفاقية وبروتوكولا)، ذات الصلة بموضوع الاتجار بالبشر، الذي تعرفه الأنتربول بأنه النشاط الذي يرمي إلى «تحقيق أغراض محددة بعينها، مثل الاستغلال الجنسي والاستغلال في العمل والإكراه على الإجرام وانتزاع الأعضاء، من بين أشكال أخرى من الاستغلال»، بينما يعرفه البروتوكول الخاص بمنع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، وخاصة النساء والأطفال لسنة 2000، بكونه «تجنيد الأشخاص أو نقلهم أو تنقلهم أو إيوائهم أو استقبالهم بواسطة التهديد بالقوة أو باستعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال السلطة أو استغلال حالة الفقر أو الضعف أو بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال، ويشمل الاستغلال كحد أدنى، استغلال دعارة الغير أو سائر أشكال الاستغلال الجنسي أو السخرة أو الخدمة قسرا، أو الاسترزاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد أو نزع الأعضاء». غير أن هذه المصادقات تظل مع ذلك إطارات قانونية تحتاج إلى مقاربات أخرى تتصل، فضلا عن العقاب والردع والزجر، بالرصد والمتابعة والحماية والوقاية والتوعية والتحسيس. وهو ما يعني لزوم دراسة «الاتجار بالبشر» كما يؤكده الواقع المحلي، من خلال الانكباب على التخلي الخاص للظاهرة مغربيا، ذلك أنها تتخذ في المغرب ثلاثة أشكال أساسية، دراسة أشرفت عليها وزارة العدل والحريات وأنجزتها منظمة الأمم المتحدة لتمكين النساء وبرنامج التعاون السويسري:
- الأول يهم المهاجرين غير الشرعيين، إذ تعمل مافيات تهريب «الحراكة» إلى أوربا باستعمال قوارب الموت أو شاحنات نقل البضائع «الرموكات»، مع ما يقتضيه ذلك من سلب للأموال لفئة تتميز بالهشاشة، على جميع المستويات.
- الثاني يتعلق بالشبكات المختصة في تهريب المغربيات إلى الخارج «أوروبا والخليج وتركيا، وبعض الدول الإفريقية، وقد وصل بها الأمر إلى تهجير مغربيات إلى إسرائيل أو الهند أو التايلاند» واستغلالهن في العمالة الجنسية.
- الثالث يتميز بالمحلية، ويتمثل في المتاجرة بالأطفال والنساء، واستعمالهن في الخدمة المنزلية القائمة على القهر والاحتجاز، فضلا عن التسول والجنس غير المشروع «الدعارة أو البيدوفيليا».
وإذا كانت الدراسة السالف ذكرها قد حددت جغرافيا «الاتجار بالبشر» في المدن الكبرى «مراكش، الدار البيضاء، أكادير، طنجة، الرباط» ومدن الشرق والشمال كوجدة والناظور، فإنها كشفت أيضا عن وجود نشاط لشبكات دولية منظمة تعمل على تهجير «الضحايا» من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، والتحكم في مسارهم عبر استدراجهم إلى المغرب واستنزاف جيوبهم لتسهيل استعمالهم في الدعارة والتسول تحت بند «ضرورة أداء مبلغ الانتقال إلى أوروبا». وهو ما يعني أن المغرب تحول إلى حاضنة لهذا النشاط الإجرامي المستتر الذي يتطلب تعاملا قانونيا وأمنيا واجتماعيا وإعلاميا خاصا، خاصة أنه يكتسي مظاهر متنوعة من الصعب اكتشافها على نحو سريع، الأمر الذي قاده إلى وضع ترسانة قانونية دخلت حيز التنفيذ في 19 شتنبر 2016 «قانون 14-27 المتعلق بمكافحة الاتجار بالبشر، والذي تمم أحكام الباب السابع من الجزء الأول من الكتاب الثالث من مجموعة القانون الجنائي»، فضلا عن إنشاء آلية قانونية تتجلى في اللجنة الوطنية المكلفة بتنسيق تدابير مكافحة الاتجار بالبشر والوقاية منه، دون إغفال أهمية التعاون الدولي بالتحقيقات والمتابعات لتتبع المجرمين وحماية الشهود وحماية وتعويض الضحايا، علما أن جريمة الاتجار بالبشر تعد انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان، وهي جريمة مركبة ترتكز على استغلال الهشاشة وعلى استغلال الهشاشة واستغلال ومواطن الضعف، كما يمكن أن تستغل لتغذية ودعم الجريمة المنظمة العابرة للحدود، علما أن هذه الجريمة من أكثر الجرائم ضخا للربح وتعرف عدة طفرات، وإلا سنقتصر على رد في أفق حد محدود، مما قد يؤدي الى إفلات الجناة من العقاب، وبالتالي تشجيعهم على اقتراف الجرم مرة ثانية.
ومهما يكن، فإن النشاط الإجرامي لشبكات الاتجار بالبشر يطرح، رغم المجهودات التي يقوم بها المغرب على المستوى التشريعي والأمني، مجموعة من الإشكالات التي تتصل بتوسع رقعة الظاهرة واحتدام المشاكل الاحتماعية وانتشار الهشاشة، فضلا عن التحول الذي وقع في هجرة أفارقة جنوب الصحراء (المغرب لم يعد بلد عبور، بل أصبح مركز استقرار)، وهي الإشكالات التي نطرحها عبر هذه الأسئلة:
- هل يمكن الاتكاء على القوانين العقابية الزجرية فقط لمكافحة جريمة الاتجار بالشر بالشكل المطلوب واللازم؟
- هل وقع بالفعل تحليل الترسانة القانونية الجنائية في بعديها الموضوعي والإجرائي لتلافي أوجه القصور؟
هل البنية المؤسساتية المعهود لها مكافحة الاتجار بالبشر (اللجنة الوطنية) تعمل على تيسير مجهودات التنسيق مع كافة الفاعلين والمتدخلين؟
- ما هي سبل تطوير فاعلية آليات الزجر والحماية إذا استحضرنا خطورة الجريمة وتطورها المستمر الذي زاد من حدته التطور العلمي والتكنولوجي الذي أضاف جريمة أشد قسوة ألا وهي الاتجار بالأعضاء البشرية؟
- هل أرسى المغرب منظومة التعاون المؤسساتي الدولي لمحاصرة هذا النشاط الإجرامي؟
- هل هناك استراتيجية موحدة وذات أهداف واضحة لمكافحة الاتجار بالبشر على النحو الذي يمكن من تقليص هذا النشاط الإجرامي وآثاره على الضحايا؟
- هل وقع الانفتاح على مراكز الأبحاث والدراسات الوطنية والمعاهد المتخصصة والجامعات المغربية بهدف تشجيع وتطوير البحث العلمي في مجال مكافحة الاتجار بالبشر والوقاية منه.
- هل هناك برامج تكوينية وبرامج للتحسيس والتواصل في هذا المجال لفائدة جميع الهيئات السياسية والجمعيات المدنية؟
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"