يعتقد محمد عمارة، أحد أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، أن النبي (ص)، كان "رسولاً سياسياً". ويذهب، مع جمهور من المختصين، إلى أنه أسس لدولة الإسلام الأولى في المدينة، عبر وثيقتين تاريخيتين، هما "بيعة العقبة" و"صحيفة المدينة". وفيما يمكن توصيف الأولى، "بيعة العقبة"، بأنها عقد اجتماعي بامتياز، يمكن توصيف الثانية، "صحيفة المدينة"، بأنها دستور لدولة، دون كثيرٍ من جدل. وفي الوقت الذي تمثّل فيه الأولى، "بيعة العقبة"، موافقةً من جانب ممثلي الأوس والخزرج، على تأسيس مجتمع سياسي، يكون النبي، الحاكم فيه، والإسلام، مصدر التشريع. تمثّل الثانية، "صحيفة المدينة"، تأسيساً لحكم غالبيةٍ يُراعى فيه مصالح الأقلية. وكانت الغالبية في يثرب حينها، عددياً، لصالح الأوس والخزرج إلى جانب المهاجرين من قريش مع النبي، فيما مثّل اليهود الأقلية، التي قبلت بالأمر الواقع، على مضض، دون شك. لكن أبرز ما يلفت في استراتيجية النبي (ص) خلال التأسيس لدولة الإسلام الأولى، أنه سعى لتحصيل الرضا من المحكومين، قبل تسيّده حاكماً عليهم، وذلك عبر "بيعة العقبة" مع وجهاء الأوس والخزرج. أي أن النبي لم يؤسس نواة دولة الإسلام، عبر الغَلَبَة أو القسر، بل عبر تأييد الغالبية حينها. إلى جانب ما سبق، يمكن للمطلع على بنود "صحيفة المدينة" الخمسين، أن يلحظ أن النبي (ص) منح اليهود حق المواطنة في الدولة الوليدة. وهو ما يظهر جلياً في البند الأول من الصحيفة، "إنهم أمة واحدة من دون الناس"، وقصد بذلك جميع من تشملهم الصحيفة، بمن فيهم اليهود. وفي بندٍ آخر يصف النبي اليهود بأنهم "أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ...". وكان لافتاً استخدام النبي تعبير "أمة"، وهو يعني، حسب أغلب المفسرين، نظراً للسياق اللغوي والقصد المعنوي، شعب. وهو ملمح أوليّ بسيط للانتماء الوطني للدولة، التي تضم مواطنين لا يدينون جميعاً بدينٍ واحدٍ، ويختلفون في انتماءاتهم القبلية (الأوس والخزرج ومُهاجري قريش). ما سبق يعني أن دولة الإسلام الأولى، في طور التأسيس، لم تكن حُكم غَلَبَة. ولم تكن من لون اجتماعي وديني واحدٍ. وقد كفلت "صحيفة المدينة"، حقوق الأقلية اليهودية حينها، بأن أقرّت لهم بحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الخاصة بهم، وحماية أموالهم وأملاكهم. مع اتباع ما سبق بشرط إعانة المسلمين في حالة الحرب، وعدم نُصرة الأعداء عليهم. وهو فعلٌ تُعرّفه الوثائق الدستورية المُعاصرة بأنه "خيانة عظمى"، تستوجب عقوبات مُغلّظة. وهو ما حصل بالفعل مع اليهود لاحقاً، حينما ساند بعضهم مشركي قريش ضد المسلمين والنبي، سراً في المراحل الأولى، وجهراً في مراحل متقدمة، مما أدى إلى ثلاث موجات من الصراع المسلح بين المسلمين واليهود في المدينة، خلصت إلى إجلاء معظم اليهود منها. إذاً، ونكرر هنا للأهمية، أن استراتيجية النبي (ص) في التأسيس للدولة، لم تكن استراتيجية غَلَبَة. ولم تقم على أساس قمع مكوّن من المكونات أو اضطهاده. بل كانت استراتيجية مفادها، نيل رضا الغالبية، وفرض إرادتها على الأقلية، مع حفظ الحقوق الرئيسية للأخيرة. فأين استرايتيجة قادة "الدولة الإسلامية" في التأسيس لدولتهم، من استراتيجية النبي (ص)؟! لم تتأسس "الدولة الإسلامية"، بقيادة أبو بكر البغدادي، على الرضا من المحكومين، بناءً على تفاهمٍ مُسبقٍ مع وجهائهم وممثليهم، كما فعل النبي (ص) في "بيعة العقبة"، قبل الهجرة إلى المدينة. بل تأسست على الغَلَبة. أي أنها "مُلك جبريّ"، وليست "خلافة على منهاج النبوة". كما لم يُراعِ قادة "الدولة الإسلامية" مكونات المجتمع في دولتهم، وتنوعاته، كما فعل النبي (ص) مع اليهود في طور التأسيس لدولته في المدينة. وإن كان بعض المختصين يعتقدون أن تصرفات وأفعال النبي في مجال السياسة والحكم هي سُنّة غير تشريعية مبنية على تغيرات الزمان والمكان، وبالتالي هي غير مُلزمة. إلا أن ارتباط نجاح تجربة النبي السياسية تاريخياً، مع كونه مُبلّغاً لرسالة الله، تستدعي الاقتداء باستراتيجياته السياسية، كلما كان ذلك ممكناً. وإلا كيف ستكون "خلافة على منهاج النبوة"؟! نُضيف على ما سبق، توصيفاً قد يكون شديد الوطأة على بعض الإسلاميين من السلفيين، أن ملمحاً واضحاً من ملامح الديمقراطية المعاصرة يظهر في استراتيجيات النبي (ص) خلال التأسيس لدولته. تمثّل ذلك حينما نال النبي تأييد الغالبية لحكمه وحكم الإسلام عبر "بيعة العقبة"، وفرض ذلك لاحقاً على الأقلية، اليهود، عبر "صحيفة المدينة"، مع مراعاة حقوقهم الأساسية، كحرية المُعتقد وحُرمة المال والدم. خلاصة ما سبق، أنها ليست نظريات وأفكار الغرب وحدها من تؤكد ضرورة نيل رضا غالبية المحكومين لتأسيس حكم رشيد مستقر، بل تتبع سُنن النبي (ص) في مراحل التأسيس لدولته تؤكد ذلك أيضاً. فأين منظري "داعش" من "الرسول السياسي... محمد"؟!
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)