1- الميتافيزيقيا وفلسفة الوجود عند الفراعنة
تعد أرض مصر الفرعونية، من أقدم أراضي العالم التي فلسف فيها الإنسان عملية الخلق والموت ، أرض مصر الفرعونية هي مهد الفلسفة ببعدها الوجودي والميتافيزيقي .
بنى المصريون حضارةً فريدةً من نوعها ،علمية واجتماعية وثقافية وسياسية ، حضر فيها الدين بشكل جديد ووجه حياة المصري القديم . كان الدين بالنسبة للمصريين القدماء أساس كلّ فعلٍ في الحياة، وهو المؤطر لفلسفة خلودهم بعد الموت .
يعتبر الدين في مصر القديمة من أهم التجارب البشرية ، لفهم تكوين الكون والإنسان ، ونظرا لعمقها أنتجت هذه التجربة الحكمة والفلسفة ، ونشأت عنها فكرة الخلود ، كما مثّلت تجربة بشرية جادة للاحتفاء بالموت بصفته بوابةً الخلود ،وليس مجرد نهاية عدمية، وعمقت الشعور بالحرية والتميّز الذي لا يوجد إلا عند البشر، بحكم أنهم يملكون المشاعر والوعي خلاف الكائنات الأخرى .
كان لدى قدماء المصريين تصور دوري للزمن ، حيث رأوا أن الزمن هو دورة من التسلسلات المتتابعة ، التي تكرر نفسها إلى أجل غير مسمى . يتعارض هذا التصور مع التمثيل الخطي للزمن السائد في الغرب ، والذي يُرمز إليه عادة بسهم مستقيم. كان للمصريين تصورهم الخاص للزمن، نتج عن تتبعهم لحركة الليل والنهار، وولادة الصيف والشتاء والحياة والموت ،كل هذه المظاهر تشهد على الطبيعة الدورية للكون . لقد اهتم المصريون القدامى بفكرة الدورة الزمنية أو دورة الوقت ، وجسدوها بقوة في هندسة تصورهم لطريق الخلود، وهكذا تمثلت عندهم الدورة الزمنية هندسيا على شكل الدائرة وليس السهم ، وهو الشكل الذي يستخدم تقليديا للدلالة على التكرار الأبدي والذي يمكن أن نمثل له بأسطورة سيزيف الإغريقية. وبما أن الفراعنة آمنوا بفكرة الخلود فقد وجدوا في الدورة الزمنية أحسن تعبير عن الإسقاط الزمني للأبدية ، وهكذا ستلخص الدائرة الزمنية الطريقة التي يتجلى ويتحقق بواسطتها الخلود الذي تصوره الفراعنة .
من الصعب أن يتحقق الخلود في عالم المادة ،لأن كل ما هو مادي لا يصمد أمام قانون التلاشي.
لا يمكن أن يتحقق الخلود للمادة ، والجسد مجرد مادة ،فكيف سيحقق له الخلود ؟ إنه أول إشكال ببعده الفلسفي الذي واجهه المصريون القدامى، إلا أنهم وجدوا الحل في الاعتقاد بوجود الروح في الجسد،وقالوا بخلودها، وجعلوها تخرج من الجسد مباشرة بعد الموت، وتسافر إلى عالم ميتافيزيقي لتخضع للحساب والمحاسبة أمام الإله "أوزوريس" ولكن ما مآل الجسد في هذه الرحلة؟. لتكتمل فكرة الخلود ، اهتم الفراعنة بالجسد لأنهم اعتبروه الوعاء الذي يحمل الروح في الدنيا وسيحملها بعد الموت مرة أخرى ، لهذا السبب سيخترع الفراعنة " التحنيط" .
قدر المصريون القدامى الحياة وآمنوا بفكرة الخلود، وقادهم هذا التصور إلى الاستعداد للموت ، وإعداد أجساد الموتى لاستقبال أرواحهم مرة أخرى بعد الموت،فكان التحنيط هو الوسيلة المثلى للحفاظ على الجسد، لاستعادة الحياة بعد الفناء . اعتبر المصريون القدامى الجسد المحنط وعاء يستوعب الروح مرة ثانية بعد الموت، واعتقدوا أن بغياب الجسد لا يمكن أن يتحقق الخلود ، لهذا السبب كانت طقوس الدفن وتحضير القبور مهمة في الثقافة المصرية القديمة .
وهم يؤسسون لفكرة الحساب والخلود، واجه المصريون الكثير من الإشكاليات ذات طبيعة فيزيولوجية وفلسفية وجودية ، لكنهم أوجدوا أجوبة لكل تساؤلاتهم ، فتجاوزوا إشكالية تلاشي الجسد حينما اخترعوا التحنيط ، كما تجاوزوا إشكالية الخلود الذي يفرض تحكما في الزمن ، ففكروا في الزمن الفلسفي القائم على التناوب الزمني ، والتمثيل الدوري للوقت ، بإعادة تشغيل الدورة الزمنية بشكل أزلي .إن فهم التمثيل الدوري للوقت بين قدماء المصريين لم يكن بأي حال من الأحوال اعتباطيا ، بل كان قائمًا على المراقبة الدقيقة للظواهر الفيزيائية والبيولوجية والفلكية. لاحظ الفراعنة أن دورة الأيام القائمة على أساس سرعة دوران الأرض تتناسب مع الدورة الكاملة لكوكبنا حول الشمس، ولاحظوا أن هذه الدورة هي المسؤولة عن الفصول الموسمية، الدورة المنتجة للحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة والضوء والظلام وهي التي تؤثر على النظام البيئي والبيولوجي ، كما اهتموا بدورة أخرى ، وهي دورة القمر حول الأرض ورصدوا تأثيرها على الخصوبة والإباضة عند النساء .
إلى جانب هاتين الدورتين ، أشارت النصوص المصرية القديمة إلى دورة كبيرة أخرى ، حاضرة في اللاوعي وهي التي سماها المصري القديم دورة الدمار وتجديد الكون وهو ما نسميه اليوم نهاية العالم. أشارت النصوص المثبتة على المعابد والأهرامات ، إلى أن الكون سوف يتم تدميره بشكل دوري، ليعود إلى حالته الأولى أي حالة الفوضى التي وجدت قبل بدء عملية خلق الكون نفسه ، يقول إله الخلق "أمون" عن هذه الدورة : " سأدمر كل ما صنعته ، وسيصبح هذا البلد مرة أخرى في حالة ضبابية، كما كان في مرحلته الأولى" ويضيف قائلا " أنا الأزلي ، سأبقى إلى الأبد ، واخترت "أوزوريس" ليبقى خالدا معي " .وفق تصور المصريين القدامى ، ستتحقق الطبيعة الدورية لـنهاية العالم ويعود الكون إلى الفوضى البدائية أو الأصلية أو الأولية ، بإرادة ومشيئة الإله "أمون" ، ثم يعيد خلق الكزن من جديد ، وهذا التصور تتقاسمه الكثير كم الأساطير والديانات المتأخرة . يذكر أفلاطون في "كلمات سولون أو صولون" وهو أحد حكماء الإغريق السبعة، الذين يعود لهم الفضل في سن قوانين اجتماعية متقدمة بعد حرب خاضها الفقراء ضد طبقة الملاك، وسمي بقانون سولون ، تضمن حق الملكية الفردية المحدودة، وحق الشعب في الإشراف على مؤسسات الدولة، وحق الجماعة في تشكيل وحدة لها قوانينها الخاصة التي تحكمها وتخضع لقانون الدولة العام. كان سولون على علم بأن الأرض عرفت العديد من الكوارث خلال تاريخها، وأن تواتر هذه الكوارث كان يحدث بشكل دوري وهو يعكس الدورة العظيمة للدمار الكوني ، أشار سولون إلى العديد من الزلازل والفيضانات التي أدت إلى انقراض العديد من الحضارات في الماضي ، وقد سبق أن عرفنا حديث الأسطورة السومارية عن الطوفان المدمر ، ولكن ماذا يعرف الفراعنة عن هذه الدورة الكونية العظيمة التي ستدمر الكون ؟
اعتقد المصريون القدامى بدورة تدمير الكون ، وقاموا بعمليات حسابية ، تستند على الرياضيات والفيزياء أكدت لهم هذا الاعتقاد ، فقد حسبوا تغير محور دوران الأرض بدرجة واحدة كل 72 عامًا ووصلوا إلى أن الأفق السماوي سيكتمل في خمسة وعشرين ألفًا وتسعمائة وعشرين عامًا ،هذه المدة الزمنية تمثل دورة فلكية ، وعند اكتمالها يحصل الدمار الشامل ، الغريب أن الدورة الفلكية التي حسبها الفراعنة ، استدل عليها علميا في القرن الثامن عشر ،وعرفت باسم السنوات الأفلاطونية العظيمة تكريما لأفلاطون الذي كان من الأوائل الذين دعموا تصور الفراعنة لدورة تدمير الكون وإعادة خلقه.
لقد كانت معرفة المصريين القدامى متطورة في علم الفلك، مكنتهم من امتلاك تصور خاص بهم حول الوقت كتكرار لدورة زمنية يخضع لها كل الخلق.
من هنا نخلص إلى أن الديانة المصرية القديمة ،هي أول محاولةٍ عميقة لفهم تكوين الوجود والكون، وما تعدد الآلهة فيها إلا وسيلة لفهم هذا الوجود المعقد، ولم يكن هدفهم يتلخص في معرفة الإله فقط، بل كانوا يطمحون إلى فهم سبب خلقه لهذا الكون، وهكذا سيرتبط الدين عندهم بالحكمة، ويؤدي إلى ظهور بوادر الفلسفة ، وعلم الأخلاق .
كان هاجس الخلود هو سرّ عظمة الحكّام المصريين القدامى ، كان يشغلهم أكثر مما يشغل الشعب ، لقد كان التفاوت واضحا بين النخبة والعامة في التعامل مع فكرة الخلود ، ما جعل الحياة الدينية للعامة غير واضحةً أو غيرذات مغزى محدد، لم تكن العامة تهتم بفكرة الخلود، بحكم أن لا نصيب لها في الخلود عكس النخبة التي تتوفر على إمكانيات الخلود ومستعدة لصرف أموال طائلة من أجل تحقيقه ، وهي الإمكانيات التي كان يتطلبها التحنيط و الطقوس المصاحبة له ..يرى السيد القمني ، أنّ عقيدة الخلود صنعت ثورة اجتماعية وأخلاقية في مصر القديمة، انبثقت عنها أفكار أخلاقية وفلسفية جديدة، فظهرت للمرة الأولى فكرة العدالة الاجتماعية بمفهومها آنذاك، وظهرت فكرة المساواة والتواضع، كما آمنت العامة بضرورة التمتع بامتيازاتٍ تحقّ لهم هم أيضا، ولا تحقّ لأشراف الفراعنة والطبقة الحاكمة فقط .
إن فكرة العدالة والمساواة ،انبثقت من طلب المساواة في فرص الخلود والحق في الحياة بعد الموت، لم تعد العامة تقبل أن تبقى فرصة الخلود حكرا على سلطة الأشراف وملوك الفراعنة ، ظهر وعي جديد ونوجه عام بين المصريين القدامى ، يطالب بحياةٍ أخرويةٍ ، ويرى أن الخلودٍ حق للجميع ،هذا التوجه الشعبي العام أدى إلى نشوء القيم الأخلاقية المعنوية بكل أنواعها، كالعدل والمساواة والتواضع والإحسان.
وبالعودة إلى سيد القمني، فإنّ هذه التجربة شكّلت "ثورةً في أرض الحكمة والخلود"، كانت الأولى من نوعها في التاريخ البشري، كانت ثورةً فلسفيةً أخلاقية، مهّدت لظهور إله ثوريّ يعبر عن المعتقدات الشعبية، هذا الإله الثوري هو "أوزيريس" الذي نقل الامتيازات الفرعونية إلى العامة ، ودخل في صراع مع رع ، كانت له انعكاسات مهمة أدت إلى ، تغيرات فكرية وفلسفية واجتماعية في مصر القديمة.
وبصورةٍ عامة؛ أظهرت معتقدات مصر القديمة الكثير من المعالم الأولى للإيمان والفلسفة والحكمة ، كما أسهمت في تشكيل المجتمع ثقافياً وسياسياً، بصياغة وبناء القيم الأخلاقية والحقوق المدنية ، وأفكارالميتافيزيقيا وفلسفة الوجود، قبل اليونان وحضارتها.
على ضوء ما سبق ، كيف صاغ الفراعنة قصة خلق الكون والإنسان ؟ هل يمكن أن نعتبر مصر الفرعونية أول حضارة بشرية اعتمدت على أحادية الإله في تصورها لعملية الخلق ؟
يتبع
المصدر : كتاب: "أسطورة الخلق" للأستاذ عبد المجيد طعام