تنطوي سياسة اليد الممدودة التي ينهجها الملك محمد السادس تجاه الجارة الجزائر على إيمان راسخ بضرورة كسب "الرهان المغاربي" أمام المتغيرات الاستراتيجية الكبرى، إقليميا وجهويا ودوليا، والتي تؤكد أن تطبيع العلاقات بين البلدين هو الحل لكل «المشاهد الكريهة» التي يرعاها قصر المرادية منذ 61 سنة، إذ لم تفتح الحدود بين الجارتين سوى 12 سنة فقط، ذلك أنها أغلقت بسبب حرب الرمال سنة ،1963 ثم بسبب المواجهات العسكرية التي خاضها الجيش المغربي مع الجزائر والبوليساريو في حرب الصحراء، وآخرها يعود إلى التفجير الإرهابي الذي استهدف فندق أسني بمراكش سنة 1994. ومنذ ذلك التاريخ والعسكر الجزائري يمارس العداء الديبلوماسي، وينهج الخطاب الحربي، وينفق بسخاء على الانفصاليين في الصحراء، وبل يرعى ماليا ولوجيستيا كل العمليات التي من شأنها استنزاف المغرب.
ومع ذلك يؤكد تعلق المغرب بالحوار مع الجزائريين، أنه على دراية تامة بألا شيء يغري بالرد على نوبات الجنون التي تعتري الجنرال شنقريحة وتابعه تبون ومسؤولي كل الأجهزة العسكرية الجزائرية التي تدور في فلكهما. فاليد الممدودة، وفق هذا المعطى، هي السياسة الوحيدة المعقولة للتعامل مع هذه «حالة شاذة» تتصرف بمزاج عسكري حاد لا يريد مغادرة لحظة حرب الرمال ومعركة أمغالا، ويعيش فقط على محاولة «الأخذ بالثأر»، رغم الكلفة الكبيرة الذي يؤدي ثمنها الشعبان رغم الانتقال الديمغرافي على مستوى النخب في كلا البلدين، ورغم التحول الذي اعترى العلاقات الدولية، من خلال تراجع الإيديولوجيات لصالح المصالح المشتركة والأمن والاستقرار، كما أن «التاريخ» في هذه العلاقات أصبح يزن اليوم أقل مما كان عليه الأمر في السبعينيات أو الثمانينيات.
صحيح أن العسكر الجزائري لم يستسغ الهزائم الديبلوماسية المتوالية التي تهاطلت على رأسه، خاصة بعد توالي الاعترافات الدولية بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وعلى رأسها اعترافات واشنطن ومدريد وبرلين، وتزايد فتح القنصليات والتمثيليات الديبلوماسية الدولية بالعيون والداخلة، وتعالي الدعم لمبادرة الحكم الذاتي، بالإضافة إلى توسيع دائرة الدول الإفريقية التي تطالب بطرد البوليساريو من الاتحاد الإفريقي (31 دولة من بين 54 دولة تعترف بها الأمم المتحدة). غير أن «سيكولوجية الهزيمة» فقط لا تفسر إمعان القادة الجزائريين المتعاقبين في التظاهر بأنهم يتصرفون مع الخطوة المغربية «اليد الممدودة» من موقع قوة، كما لا تفسر ردود الفعل العشوائية والغريبة التي «يعتنقونها» كلما تقدم المغرب خطوة واحدة في طريق التسوية السياسية لنزاع الصحراء، كما لا يفسر سعيهم إلى إبقاء الوضع في حالة دائمة من عدم الاتزان، رغم أن كلفة إغلاق الحدود وجمود العلاقات الديبلوماسية تبلغ حوالي ملياري دولار سنويًا بالنسبة للبلدين، بحسب ما كان قد صرح به رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دومينيك دوفيليبان. ناهيك عن الشوائب الاقتصادية والأمنية التي انتعشت على طول الشريط الحدودي بين البلدين، حيث تقدر معاملات التهريب سنويا بمئات الملايين من الدولارات.
لقد تميزت خطابات الملك محمد السادس دائما بالهدوء تجاه الجزائر، وكثيرا ما دعاها على نحو صريح ومباشر إلى الحوار دون قيد أو شرط، وهو ما ترفضه السلطات الجزائرية التي لا تتوانى عن وصف المغرب بـ «العدو»، بل تتعامل معه كـ «مُحَرَّم لا ينبغي النطق به أو الإتيان على ذكره»، ولا ترى في تلك الدعوات الملكية سوى «دعاية فارغة» أو «شيطنة لها ولقيادتها».. وغيرها من المبررات التي تثير الاستغراب! بل أكد الملك غير ما مرة، أن المغرب لن يكون أبدا مصدر أيّ شر أو سوء للجزائريين، قيادة وشعب، الأمر الذي يعكس تمسك رئيس الدولة المغربية برابط الأخوة مع الجزائر، كما يرسخ أن سياسة اليد الممدودة هي خيار ملكي استراتيجي في سياق إقليمي معقد ومتحول باستمرار، وليس مجرد وجهة نظر ظرفية، خاصة أن الملك دأب، في الكثير من المناسبات، على بعث رسائل إيجابية، وتقديم يد المصالحة للجزائر ودعوتها للجلوس إلى طاولة الحوار لحل المشاكل العالقة ومواجهة التحديات الإقليمية، وهو ما تقابله الجزائر بالرفض الممنهج، الأمر الذي يعني أن الموقف الملكي يتجاوز الحرارة الظرفية للملف، ويفوق سلوكيات الاستفزاز والإساءة التي يقوم بها حكام الجزائر، بوجوه مكشوفة، ودون أي حس ديبلوماسي يربط أقوالها بأفعالها.
لقد اعتبر الملك دائما، وهذا ما تكشفه أطروحته الجامعية، أن الجزائر أحد مقومات انفتاح المغرب على منطقته المغاربية. كما تقوم رؤيته للتكتلات الإقليمية على مرجعية جيو استراتيجية، وفي الوقت نفسه على أسس سياسية واقتصادية تتمثل في تطوير التحالفات الإقليمية والدولية والمراهنة عليها لتحقيق التنمية من خلال نموذج «رابح+رابح»، دون أي نية لإحراج النظام الجزائري الذي جعل من المغرب عدوا استراتيجيا في عقيدته العسكرية والسياسية وواجه كل المبادرات الملكية إلى التفاهم بالقطيعة والهجوم الإعلامي، بل بالعراك الديبلوماسي والتحرش العسكري.
وهو ما يطرح السؤال: لماذا هذا الإصرار على «عض» اليد المغربية الممدودة من طرف عسكر الجزائر الذي يتغذى على القطيعة وإغلاق الحدود في وجه 80 مليون مغربي وجزائري بل وفي وجه حوالي 103 مواطن بالمغرب العربي.؟!