تتعدد المقاربات والهدف واحد هو تأكيد مغربية الصحراء، والارتباط الحاصل بين السلاطين وساكنة الصحراء..
الجيلالي العدناني، واحد من الأساتذة الذين حملوا هم التاريخ في الصحراء، ومن خلال مسار طويل من البحث المنهجي في الأرشيفات الأجنبية، فرنسية وإسبانية استطاع استنطاق هذه الارشيفات ليثبت مغربية الصحراء.
لأن الصحراء المغربية لم تكن في أي وقت أرض خلاء، فإن هذا ما تثبته الوثائق التي استعرضها الجيلالي العدناني، أستاذ التاريخ الراهن بجامعة محمد الخامس، ومهتم بالأنثروبولوجية التاريخية للحركات الصوفية والدينية بالمغرب، استعراض تاريخي احتضنته القاعة الرئيسية للمكتبة الوسائطية لمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، الخميس 7 مارس 2024. محاضرة حضر فيها عبق التاريخ، ظهائر ملكية، وخرائط رسمية، ومراسلات موثقة.. وهو ما شكل مدخلا مهما من مداخل فهم قضية الصحراء المغربية ومراحلها الكبرى من خلال دراسة الأرشيفات الأجنبية والمخططات الكولونيالية الفرنسية المعتمدة على رسم الخرائط لتقزيم الوحدة الترابية للمغرب.
اعتمد الجيلالي العدناني، في تناول الموضوع على وثائق بدور الأرشيفات الفرنسية، أبرزها من «إكس أون بروفانس» والأرشيف الدبلوماسي لنانت ولاكورنوف ومن مركز «كولوبا» في باماكو والأرشيفات الوطنية في دكار، وفكك من خلالها المخططات الاستعمارية لرسامي الخرائط الفرنسيين بالجزائر الفرنسية.
يتحدث العدناني، عن مساره في البحث والتقصي، واصفا الكم الهائل من الوثائق التي عثر عليها في مركز أرشيف «إكس - بروفنس»، بأنها ذات أهمية كبيرة، وبحكم دراسته في فرنسا وبالضبط غير بعيد عن مركز الأرشيف المحاذي لكلية الآداب، ربط علاقات متينة مع الباحثين وإدارة المركز، مما سهل من مأموريته التي كانت تعتمد على استقراء هذا الوثائق. وبحكم تكوينه الذي جمع فيه بين العلوم الإنسانية والاجتماعية، تمكن من الاشتغال والتعاون مع كبار الدارسين الأفريقانيين في الجامعات الفرنسية والإفريقية والأمريكية.
يتابع الجيلالي العدناني قائلا: «بدأت منهجيتي العلمية بالاهتمام الفرنسي بالصحراء المغربية منذ احتلال الجزائر سنة 1830، وبداية مشكل ترسيم الحدود بعد معركة إيسلي سنة 1844، وما نتج عنه من احتلال الأراضي المغربية كتوات وتيديكيلت وبشار. ويعتبر الحاكم العام للجزائر جول كامبون من منظري مخطط السياسة الاستعمارية بالصحراء المغربية.
خضوع المغرب للاحتلال بدأ منذ توقيع معاهدة لالة مغنية سنة 1845، والتي فقد من خلالها المجال الحيوي الذي يخضع له سياسيا أو ثقافيا وروحيا منذ قرون، وستستمر عملية الاحتلال والتقسيمات والضم على حساب المغرب إلى حدود سنة 1958، حين ضمت فرنسا مئات الكيلومترات من التراب المغربي لأجل تأمين الحدود ومنع تسرب المقاومين المغاربة الذين كانوا يساندون الثورة الجزائرية. لكن شخص الحاكم العام للجزائر والسفير الفرنسي في كل من واشنطن ومدريد وبرلين "جول كامبون" كان هو صانع المشكل، وهو من شجع على الاقتطاعات الترابية خاصة في اتجاه توات.
«جول كامبون»، هو مهندس مشروع ربط المستعمرة الجزائرية بمستعمرات إفريقيا الغربية على حساب المغرب وأراضيه الصحراوية. وقد كان المشروع الأولي للاستعمار الفرنسي أخطر من هذا لأنه كان يرمي إلى ضم المغرب كاملا إلى المستعمرة الجزائر حتى يضمن لها واجهة بحرية أطلنتية. رغم أن جول كامبون لم ينفذ هذا المشروع فإن خلفاؤه قاموا بذلك بدءا من سنة 1900، ولكن دائما تحت إشرافه وتأثيره المباشر خاصة حين عين سفيرا في مدريد (1902-1907) و بعده في برلين (1907-1914). فكل الاتفاقيات الرسمية والسرية بين فرنسا وإسبانيا كان من ورائها «جول كامبون»، بل يجب التذكير بأنه كان وراء الإتفاق الودي بتعاون مع أخيه «بول كامبون» سفير فرنسا بلندن وأيضا من وقع اتفاقية 4 نونبر 1911 مع ممثل ألمانيا كدرلين بعد أزمة أكادير.
يقول الأستاذ الجيلالي العدناني أن الأبحاث التي قام بها في دور ومراكز الأرشيف تتوزع بين أفريقيا وأوربا، خاصة ما يتعلق مراکز داکار وباماکو ونواكشوط فالرباط. أما الأرشيف الفرنسي فيتوزع بين وزارة المستعمرات والداخلية والخارجية والذي يغطى أرشيف ما وراء البحار بإكس - بروفنس ثم أرشيف وزارة الخارجية بنانط و لا كورنوف.
يضيف العدناني، لقد همش الباحثون أرشيف «إكس - بروفنس» على اعتبار أنه يهم الجزائر بينما أرشيف الخارجية يهم المغرب.
إن عملية الاحتلال وتقلباتها انطلقت من الجزائر، وبالتالي فالأرشيف الأكثر أهمية هو الذي أنتجته وزارات الحرب والمستعمرات فالداخلية، هذا بالإضافة إلى العمل الخرائطي الذي كان يقوم به الضباط على الأرض، ثم أن المراسلات مع الخارجية كانت تمر عبر الجزائر وباقي المستعمرات.
مكن أرشيف «إكس - بروفنس»، الأستاذ العدناني من الوقوف على النصوص والأرشيفات التي أطرت وباشرت سياسة الاقتطاع على حساب المغرب وكذا الرصيد الخرائطي الذي يوثق له. لكن أرشيف الخارجية بنانط ولاكورنوف مكنه من القضايا الترابية التي نوقشت خلال سنوات الاستقلال، أي الملفات التي تحتوي على وثائق سرية لأجل الدخول في مفاوضات مع المغرب من أجل ترسيم الحدود بدءا من سنة .1956
كما مكنه هذا الرصيد من الوقوف على تقارير تهم الموقف الجزائري سواء قبيل أو بعد الإستقلال وهي وثائق بالغة الأهمية خاصة على مستوى التصريحات والاعترافات بمغربية الصحراء، والرغبة في اقتسام الصحراء المغربية مع المغرب وهو ما يكشف النوايا الحقيقية للجزائر التي تحاول الظهور بكونها طرفا محايدا يساند مبدأ تقرير المصير. لكن المفاجأة الكبرى وهي المتمثلة في اعتراف فرنسا من خلال سلطاتها المدنية والعسكرية بمغربية الصحراء، وبالخصوص بمسألة وجود سلطة سياسية وروحية بالصحراء الشرقية والغربية، وكون السلطات الاستعمارية التي كانت تنفي خلال بدايات الاحتلال، أي وجود لسلطة السلطان والمغرب، صارت في السر والعلن تعتمدها في الأقاليم الصحراوية عبر إعادة إنتاج رموز السلطة، خاتم/البرنس والظهير مع الحفاظ على نفوذ العائلات المخزنية حتى و إن شاركت في أعمال المقاومة.
يصف الجيلالي العدناني خلق قيادة التخوم سنة 1933 أو حذفها سنة 1955، بالمؤامرة التاريخية على الوحدة الترابية للمغرب. فقد شهدت سنة 1930 تنظيم ندوتين بمعهد الدراسات العليا المغربية، الأولى حول الجبل والثانية حول الصحراء. لكن ندوة الصحراء هي التي استرعت بالاهتمام ونشرت أعمالها سنة 1930 في مجلة «هسبريس» حتى تعاكس مقولاتها مسألة الحدود المشتركة للمغرب مع إفريقيا الغربية، كما أكدت على ذلك معاهدة فرنسا ألمانيا لسنة 1911. كما عرفت نفس السنة صدور تقارير من أعلى سلطة عسكرية ومدنية بالجزائر وفرنسا توافق على الاعتراف بالمناطق المغربية التي ستتحول إلى مناطق قيادة التخوم المغربية - الجزائرية، لتنضاف إليها تسمية الموريتانية وفق اتفاقية تندوف سنة .1949
قيادة التخوم التي تحولت من ميدلت إلى تزنيت سنة 1933 ستستقر بأكادير إلى سنة 1955، حيث أن حذفها جاء كقرار يعاكس استقلال المغرب مع الأراضي التي كان يديرها انطلاقا من أكادير.
فندوة 1930 حول الصحراء هي انقلاب على مشروع فرنسي يرعاه العسكريون والمدنيون دفاعا على الحقوق التاريخية للمغرب. لقد جاء خلق قيادة التخوم حتى يتم استغلال القرب الجغرافي للمغرب من المناطق الصحراوية لأن تمويلها انطلاقا من الجزائر لم يكن ممكنا، ولأن السلطات السياسية المخزنية والقبلية كانت تساهم في تسهيل إدارتها وإخضاعها. كما أن خلق قيادة التخوم كان يخدم مشروع المحافظة لفائدة الجزائر على منفذ في اتجاه الأطلسي. لكن عملية الحذف لسنة 1955 جاءت بسبب قرب استقلال المغرب، وأيضا حتى لا يتم استرجاع منطقة تندوف الغنية بالمعادن، وكذا لجعل المغرب خارج أي مشروع يهدد استغلال أكبر منجم حديد بموريتانيا قرب الزويرات. فإذا كان احتلال وتقسيم المغرب ووضع الحدود مرتبطا بالمحاور التجارية وبالعلاقات بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء فإن اكتشاف خيرات باطن الأرض كان وراء ضم جزء من الصحراء الغربية وتسميته بموريتانيا العليا وضمها لموريتانيا سنة 1955، مع حذف قيادة التخوم، وكذا بداية التفكير في خلق كيان وهمي فيما بين 1958 و1962 تخلت عنه فرنسا لتتبناه الجزائر بدءا من سنة .1973
شدد الجيلالي العدناني في محاضرته على أن الجزائر عاكست مغربية الصحراء منذ 1958 وإلى حدود 1962 بشكل سري، على الرغم من أن الثورة الجزائرية كانت تجد في المغرب وفي رجاله السند الحقيقي للثورة الجزائرية. بل إن هذه المساندة هي التي كانت من وراء اقتطاع ترابي هام سنة 1958 وهو الذي سيكون أحد الأسباب المباشرة لاندلاع حرب الرمال بعد أن رابط الجيش الوطني الجزائري على حدود تبنتها فرنسا سنة 1958 لمنع المتسللين المغاربة من جيش التحرير إلى العمق الجزائري. كما أن تضارب المواقف الجزائرية المدنية والعسكرية لم تسهل من مأمورية إيجاد توافقات حول المسألة الحدودية. فالمواقف الجزائرية الموالية لاسترجاع بعض المناطق والمدن جوبهت بمواقف راديكالية للضباط، وخاصة من الذين عاشوا بالمغرب ورفضوا أي مس بالوحدة الترابية للجزائر، تحت شعار عدم المس بالحدود الموروثة عن الاستعمار. وهو المبدأ الذي رفعه رجل القانون وسفير الجزائر بفرنسا وكذا ممثلها بالأمم المتحدة، محمد بجاوي. كما أن الجزائر الساعية المعاكسة الوحدة الترابية للمغرب ومحاصرته اقتصاديا ستتحالف مع اسبانيا فيما بين 1963 و1968 إلى درجة أنها ستسقط في تناقض صارخ مع مبادئ الثورة الجزائرية.
ذلك أن الجزائر التي كانت تعتبر مكة الثوار بعد استقلالها، لم تتوان في رفض مشروع تصفية الاستعمار في الصحراء سنة 1966 وذلك من أجل ضمان مصالحها الاستراتيجية مع إسبانيا، وخاصة من خلال الاستغلال المشترك لمنجم الحديد غار أجبيلات مقابل الغاز الجزائري. ذلك أن ممثل الجزائر بمنظمة الوحدة الإفريقية بأديس أبابا أو ممثلها بالأمم المتحدة بنيويورك، لم يتوانا في رفض فكرة تقرير المصير سنوات 1965 و1968. وقولهم بأنه من المستحيل أن تشكل قبائل رحل لا يتعدى عددها 40 ألف نسمة دولة مستقلة بالمنطقة.