دلال البزري: "التدعيش" رداً على "داعش"

دلال البزري: "التدعيش" رداً على "داعش"

بعد الصلبْ، يأتي الذبح في المقام الثاني من وحشية "داعش". مثل الصلب، هو تمثيل بالقتيل أثناء قتله. والفرق الوحيد هو اأن الغربان تشارك الإنسان بالتمثيل في جثة المصلوب، فيما الذبح لا يتطلب أكثر من إنسان ليقوم بالمهمة. و"داعش"، بذبحها، حتى الآن، جنديين من الجيش اللبناني، دخل إلى المسرح اللبناني بأبهى حلاه. وهذا المسرح معدّ، بدوره، ليقظة وحوش صغيرة، لم تنمْ تماماً، لم تمتْ تماماً مع نهاية حربه الأهلية، العائدة إلى أربع وعشرين سنة خلتْ. بشاعة ذبح الجنديين لم تتسبّب بوفرة حب أو عقل، ولا شجعت إحياء المؤسسات المعطّلة؛ إنما أحيت تراثاً أهلياً، وظيفته الثأر. فنشطت على خشبته أشكال الخطف على الهوية المذهبية، مدخلة تعديلاً بسيطاً على هوية المخطوفين والخاطفين: بعد المسيحيين والمسلمين صار أبطاله شيعة وسنة، فضلاً عن النازحين السوريين، أضعف خلق الله في لبنان. الصفة البارزة لهذا الوحش المنبعث من جديد بتحريض من الوحش الداعشي، هو أن ممارسته تقتصر على "العوام" من الناس. يستنكره أولئك الجالسون خلف مكاتبهم المكيفة، الممتلئين عقلاً؛ "النخبة"، على ما يظنون. ولكن الواقع، هو انه، حتى هذه "النخبة"، أصبحت عقولها في مرمى نيران "داعش". بالأمس، ومن الصحف البيروتية، انطلق إحد الأقلام في توحّشه رداً على ذبح الجندي الثاني، باقتراح فذّ: اختبر صاحب هذا القلم اقتراحه بداية على الفايسبوك، فتلقى سيلاً من "الليكات"، استمرت بالتدفّق عليه حتى قرر بأن يكون ذاك "الستاتوس" الناجح فكرة لمقال. هذه الفكرة بسيطة جدا، والهاشتاغ الخاص بها، يضع الشنق مقابل الذبح. أي، إن مقابل ذبح كل جندي، تعالوا نقتل واحداً من سجناء رومية. والتعديل الذي أدخله صاحب هذا القلم في المقال، فهو التوضيح الخجول، بأن خطته بالشنق تقتصر على الذين حوكموا وصدرت بحقهم عقوبات؛ فضلاً عن أحاسيس وعواطف وتأملات وشكوك... وكل غرضها التبيان بأن صاحبها، رقيق القلب، راجح العقل، "يناهض عقوبة الإعدام"، مضطر اليوم ليقترح علينا عقوبة الشنق المتسلسلة، مضطر أن يقتل هو الآخر. وحجته تحت إبطه، وهي: ماذا نفعل اذن؟ ننتظر الدولة؟ الجيش الذي لم يكمل معركته؟ ماذا...؟ هكذا دخل الوحش الداعشي في صميم العقول المفترض أنها مفكرة وعارفة ومدركة؛ وقد حولت الشنق مقابل  الذبح مشروعها الأولي، أو ردة فعلها "العاقلة" الأولية. ليس "داعش" وحده مسؤول عن هذا التضخم لذوات تؤمن بحلولها كما يؤمن الداعشيون بعقوبات الشريعة. الفايسبوك اخترع هذا المرض. بضعة أصدقاء هنا وهناك، ومعهم زملاء حريصون على عملهم وشوكتهم، فضلا عن الأهل وأبناء الخؤولة والعمومة، فتمطر "اللايكات" على صاحب "الستاتوس"، فيعتقد نفسه ساعتئذ صاحب حلول، صاحب دور عظيم، وهو جالس على مكتبه خلف اللاب توب. غياب الدولة طبعاً، جعلته يفكر عنها، يقوم بدورها، يخطط لمشاريعها. بكل الثقة، وكل التجميل اللازمين. وبما انه تنطّح وقام مقام الدولة الغائبة، عليه أن يجيب على أسئلة مباشرة وملحة يطرحه مشروع الشنق هذا: هل الشنق هو إعدام أم لا؟ هل المعارض لعقوبة الإعدام يمكنه أن يدعو إلى الشنق؟ هل ذريعة "الظرف الاستثنائي"، أي أنهم مجرمون حقيقة، تسمح لصاحب قناعة ضد الإعدام بالدعوة إلى الشنق، هي ذريعة مقبولة؟ خصوصاً أن الشنق لم يكن يوماً من نصيب أبرياء؟ هذه الذريعة، ألا تشبه ذرائع كل الخروقات التي يمارسها المرء والجماعات والسلطات ضد مبادئهم المعلنة؟ من أنهم، مثلاً، ضد الطائفية، ولكنهم طائفيون بالممارسة حتى العظم؟ هل المبادئ عند هذا القلم  قناعات أم زينة؟ هل يعرف تماماً لماذا هو "ضد عقوبة الإعدام"؟ هل يعرف حيثيات رفضه للإعدام؟ من جانب آخر، عملي أو إجرائي، كيف يكون تطبيق هذه العقوبة؟ بتجميع ألف أو ألفين أو ثلاثة آلاف من المتحمسين للفكرة في مسيرة، رافعة شعار الشنق، تتوقف عند باب سجن رومية، وتعلن عن هدفها؟ وإذا توفّقت بمؤازرة ضمنية من أطراف "فاعلة على الأرض"، فكيف ستختار المرشح الأول للشنق؟ والذي بحسبها "ثبتت عليه جرائم التفجيرات"، تحديداً؟ هل تتدخّل في مداولات القضاة؟ أم من دون قضاة، يكون لها، هي، تلك المسيرة حرية "اختيار" المشنوق الأول؟ بناء على ماذا ستختاره؟ على عمره، أو هندامه؟ أو صحته؟ أو نظرته؟ وإذا استمر ذبح الجنود، كيف يستمر الثأر؟ هل يبقى أولئك الآلاف على باب سجن رومية، يخيّمون يعتصمون؟ أم ينظمون مسيراتهم على وقع الذبح؟ الأسئلة لا تنتهي... وكلها تبين مدى هشاشة ثقافتنا الإنسانية والحقوقية، مدى تعطشنا للثأر، عظمة قدرتنا على خلق أكثر الأوضاع فوضوية وابتذالاً. كل هذا بأحاسيس لطيفة رقيقة، تبرّئ ذمتها بمعسول الكلام، ثم تأمر فرقتها بزرع الموت رداً على الموت. فيسهل بذلك تدعيش مجتمعاتنا...

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)