أقصبي يطرح سؤالا مزعجا: هل يختار المغرب تحطيم أرقام قياسية في تصدير الطماطم، أم توفير مياه صالحة للشرب؟

أقصبي يطرح سؤالا مزعجا: هل يختار المغرب تحطيم أرقام قياسية في تصدير الطماطم، أم توفير مياه صالحة للشرب؟ نجيب أقصبي، الخبير الاقتصادي
نشر نجيب أقصبي، الخبير الاقتصادي، دراسة في المجلة المغربية للعلوم السياسية والاجتماعية، بعنوان:  "الماء، الطاقة والبيئة.. أية رهانات؟"،   ركز فيها على القطاع الفلاحي وعلاقته  بمختلف المقاربات التي تتناول علاقته بالأزمة المائية التي تعيشها بلادنا.

 وقد استهل أقصبي دراسته بالإشارة إلى أنه تم منذ أواسط ستينيات القرن ال20، ارتبط القطاع الفلاحي بما يمكن تسميته ب "سياسة السدود"، إذ بدأ منذ البداية الاهتمام بالماء، علما أن هناك جفافا بالأراضي الصلبة التي كانت تشهد التساقطات المطرية بكثرة، مقابل نذرة  في الأراضي الخصبة.

وأوضح أقصبي أن 51 % من التساقطات كانت مركزة على 7 % من الأراضي؛ خاصة بحوضي اللوكوس وسبو. وهذا ما يجعل من الصعب القول إن المغرب بطبيعته بلد فلاحي.

وتابع الخبير أنه رغم كل هذا، وضع حكام المغرب مخططات للتنمية الفلاحية، وأعطيت الأولوية بناء على نصائح من مؤسسات دولية (على رأسها البنك الدولي)، للفلاحة الخاصة بالتصدير، وهو ما دفع إلى تبني سياسة السدود التي تحتكر الجزء الأكبر من الموارد المائية. لكن التناقض سيكون واضحا مع مرور السنوات. فبعد استثمار الكثير من الجهود في هذا الشأن، وعلى جميع المستويات، يجد المغرب نفسه اليوم أمام نذرة مائية، وأمام أزمة مائية لم يسبق له مواجهتها ٱطلاقا.

وأثارت أقصبي تناقضا آخر، حيث أكد أن الإحصائيات تقول  إن نسبة الثلث في الـ 150 سدا فارغة. مشيرا في هذا السياق إلى تصريح لرئيس الحكومة (وزير الفلاحة السابق)، الذي أكد أن الفترة بين 2018 و 2022 هي الأكثر جفافا في البلاد عبر جميع الأزمنة، وهي الأضعف  في تاريخ المغرب خلال خمس سنوات متتالية، مضيفا أن متوسط الكمية المائية لكل مواطن هي 620 مترا مكعبا سنة 2022، وأنها ستتقلص إلى 520 مترا مكعبا سنة 2030، علما أنها كانت 2560 مترا مكعبا لكل مواطن في ستينيات القرن الماضي.

تناقض آخر كشفته الدراسة، وهو أن التساقطات المطرية هي من توجه  السياسة والحملات الفلاحية، بل والاقتصاد الوطني ككل، وتحدد نسب نمو قد تنحدر إلى 1%،  وقد تصعد إلى  4% حسب رحمة السماء بنا.

وهنا يكتب أقصبي: من حقنا التساؤل: إذا قَلَّ فعلا كرم السماء وتراجعت التساقطات، ماذا عن الاختيارات اللاعقلانية للمسؤولين الموجدين فوق الأرض، والذين غاب عنهم بكل بساطة حسن النية. ليخلص إلى أن الاختيارات الأساسية للنموذج الفلاحي المغربي تعود إلى سياسات لاعقلانية تعود إلى ما قبل المخطط الأخضر "السخيف"، والذي كانت له انعكاسات سلبية على الأمن المائي، خاصة عندما ترتبط السياسات اللاعقلانية بأساليب معينة.

وذكر نجيب أقصبي أن المغرب عرف في بداية ستينيات القرن الماضي أزمةً ماليةً كبرى وعجزا في الميزانية ونذرةً في العملات الأجنبية، وأن الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يسعى لتثبيت نظامه، بحث عن  تحالفات ومساعدات خارجية، حيث طلب مواكبة  صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وبعدها جاء خبراء من المؤسستين إلى بلادنا وقدموا توصيات هي من شكلت أساس ومضمون نموذج التنمية في الفلاحة المغربية.

وقال أقصبي إن هذا النموذج الفلاحي بُنِي على مفهومين: التحديث  والربح، وأيضا على مقاربة تقنية وليست سياسية. باختصار، إنها سياسة السدود وسقي مليون هكتار في أفق سنة 2000. وتطلبت هذه السياسة استثمارات مالية ضخمة لم يكن المغرب يتوفر عليها بحكم الأزمة المالية، مع واجب أداء المديونية بالعملة الصعبة. وهذا ما أعطى الامتياز والأسبقية للمنتجات الفلاحية الموجهة للتصدير لتغطية نفقات الديون، فكان استغلال السدود في النموذج التصديري.  كما قامت الدولة بمجهودات في البنيات التحتية الأساسية وتوفير شروط استغلال الأراضي مع إجراءات تفضيلية في الضرائب.

وإلى حدود سنة 1980، تعايش النموذج التصديري مع الاكتفاء الذاتي. لكن بعد ذلك،  كان التحول بظهور الموجة النيولبيرلية التي أقحمت الدول السائرة في طريق النمو في سياسة التقويم الهيكلي، وهي عبارة عن برامج موجهة لاسترداد الديون، حيث تراجعت أدوار  الدولة وهيمن قانون السوق. وهكذا انعكست الفلاحة الربحية بشكل سلبي كبير على الموارد المائية في ظل استغلال عشوائي للفرشة المائية.

وذهب نجيب أقصبي إلى هذا مخطط المغرب الأخضر كان من إخراج مكتب دراسات أجنبي في مدة لا تتعدى 5 شهور. وكان الهدف منه خلق دينامية تقنية ومحاربة الفقر بالمغرب في أفق 2020 من خلال فلاحة عصرية وفلاحة تضامنية باستثمار فاق 147 مليار درهم لتغطية1506 مشروع. غير أن الملك يستقبل، في شهر أكتوبر  2018، المسؤول الأول عن المخطط الأخضر (عزيز أخنوش)، داعيا إياه إلى التصحيح عبر جيل جديد أخضر يكون رافعة للتشغيل ومكافحة الفوارق والهجرة القروية.  وقد اتضح حينها فشل  المخطط الذي منح الاستفادة للفلاحين الكبار والمتوسطين، وشهد خروقات واختلالات مائية تناولتها الصحافة في وقتها، أبرزها الاستغلال البشع للفرشة المائية.

اليوم، وحتى لا يصل الوضع إلى ما لا تحمد عقباه، يشدد أقصبي على إعادة التفكير في اختياراتنا الأساسية بالنسبة للسياسة المائية وتدبير الماء، أي الوصول إلى اختيارات بعيدة جدا عن تلك التي أوصلتنا إلى هذا الوضع الكارثي وتأخذ بعين الاعتبار الانسجام بين اختيارات السياسة الفلاحية والإكراهات المائية للبلاد، وذلك على مستويين:
على مستوى السياسة الفلاحية: اختيارات الإنتاج يجب أن تكون حسب الواقع المائي، وليس العكس، أي الحفاظ على الموارد المائية والاشتغال حسب الإمكانيات المتاحة، والاستغناء عن المنتجات التي تتطلب كميات كبيرة من الماء وتدبير عقلاني بعيد عن مفهوم "الكل للتصدير"، وذلك في أفق سيادة غذائية ومائية.

على مستوى سياسة الماء: يجب إعادة التفكير في سياسة السدود، إذ لا معنى لقرار بناء 50 سدا جديدا الوارد في المخطط الوطني للماء، مع الارتهان لأهواء السماء وتراجع نسب التساقطات.

ويطرح أقصبي في دراسته حلولا أخرى، مثل تحلية مياه البحر، وتخزين مياه الأمطار، والمنع الكلي للاستغلال العشوائي للفرشة المائية، وإعادة استعمال المياه المستعملة.

وختم أقصبي بوضع  سؤال مزعج ومفروض خلال العقد القادم: لمن الأولوية؟ تحطيم أرقام قياسية في تصدير الطماطم؟ أم توفير مياه صالحة للشرب خلال العشر سنوات القادمة؟