بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاق الحراك الشعبي في الجزائر والذي أدّى إلى تنحية الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، استعادت الصحافية الجزائرية مريم بلقايد أهم ما حققه هذا الحراك من انتصارات:
قد تبدو هذه المقولة مجرّد حشو، غير أن النصر الكبير الذي حققه الحراك، الحركة الاحتجاجية الشعبية التي بدأت في الجزائر في فبراير 2019، يتمثّل في تنحية الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يكمل ولايته الرئاسية الرابعة ويستعدّ للترشح لولاية خامسة. في الواقع، وعلى الرغم من تعدّد الأسباب التي أدّت إلى الاستياء الشعبي، إلّا أنّ الإعلان عن ترشّح رئيس مريض وغائب منذ عدة سنوات هو الذي أطلق شرارة التظاهرات في منطقة خراطة ولاحقًا في مناطق عدّة من البلاد، لتصل بعد ذلك إلى المدن الكبرى بما فيها الجزائر العاصمة.
إلّا أنّ هذا النصر يشير أيضًا إلى المآزق الهيكلية التي لم يتمكّن الحراك من التغلّب عليها. إذ أنّ عددًا من أعضاء هيئة الأركان العامة للجيش الجزائري، الذين كانوا متخوّفين من حجم هذه الاحتجاجات وفوجئوا بطبيعته السلمية، هم الذين دفعوا فعليًا عبد العزيز بوتفليقة إلى الاستقالة، وذلك من دون الرضوخ لمطالب الحراك الأساسية. فقد فرض النظام القائم تنظيم انتخابات رئاسية في دجنبر 2019، على الرغم من أنّ المتظاهرين كانوا يطالبون بتغيير حقيقي للنظام. وهو ما لخّصه تمامًا شعار “يتنحاو ڨاع” (فليتنحّوا جميعًا). والأسوأ من ذلك هو أنّ السلطات قد اختارت قمع الحراك وتجريم بعض المشاركين فيه، حتى بلغ بها الحدّ إدراج جماعتيْن معارضتيْن، هما ماك ورشاد، على قائمة المنظمات الإرهابية. وقد تمكّنت السلطة القائمة من كبح الحراك ومن ثم تثبيط أي محاولة لاستئناف الاحتجاجات من خلال تعزيز ترسانتها القمعيّة وتصعيد عمليات اعتقال الناشطين والصحافيين وحلّ الجمعيات مثل الجمعية الوطنية الشبابية “تجمّع، عمل، شبيبة” المعروفة بـ”راج” والرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان. وقد ساعدها في ذلك توقف التظاهرات خلال جائحة كوفيد-19. فأصبحت الساحة السياسية بالتالي مغلقة تمامًا والأجواء توحي بالتراجع، ممّا قد يعطي انطباعًا بفشل الحراك.
لكن، وبالإضافة إلى تنحية بوتفليقة الذي لا يزال يمثل نصرًا مهمًا من شأنه تثبيط أيّ نزعة لدى أيّ رئيس لاحتكار السلطة، يتضح لنا في حال نظرنا إلى الحراك ضمن سياق زمني أطول وعدنا إلى تاريخ البلاد والحركات الثورية، أنه قد تمكّن من تحقيق انتصارات أخرى ذات تأثيرات دائمة. فقد أعاد الحراك، قبل كل شيء، الشأن السياسي إلى صلب اهتمامات الجزائريين والجزائريات بعد عدة سنوات من اللامعيارية وغياب القانون وشبه الاستقالة بين النخب السياسية التي لم تكن تتجرّأ، مع استثناءات نادرة، على تحدّي نظام بوتفليقة.
كما سمح الحراك للجزائريين في الشتات بإيجاد طرق فعّالة للمشاركة والتعبير، وبالتالي دعم الحراك وضمان إكمال مسيرته عند الحاجة، وبخاصة مع ازدياد حدّة القمع في البلاد. ويعتبر هذا التآزر المستعاد بين ما يُعرف بجزائر الداخل والخارج خطوة مهمة تُحسب للحراك. وهذا ما أدركه النظام الجزائري تماما وتجلى من خلال توسيع ترسانته القمعيّة والتشهيريّة في كثير من الأحيان ليطال الجزائريين المقيمين في الخارج والذين شاركوا في الحراك.
تندرج هذه الخطوة في ما يشكّل من دون ريب الانتصار الكبير للحراك، ألا وهو تحقيق مصالحة وطنية حقيقية. قد تغيب عن ذهننا أحيانًا الآثار المدمرة التي خلّفتها الحرب الأهلية الجزائرية في تسعينيات القرن الماضي على النسيج الاجتماعي والأثر الدائم لهذه الحرب الداخلية التي تسببت بصدمات جسدية ونفسية لدى المواطنين والمواطنات. ولم يتمكّن لا “الوئام المدني” (1999) ولا قوانين العفو المختلفة التي حاكها الرئيس السابق بوتفليقة من تحقيق المصالحة. بل على العكس من ذلك، فهي قد أدت إلى مزيد من الانقسامات وانعدام الثقة. ولا يزال الضحايا وأسرهم يعانون بصمت، من دون أي حق في التعبير والكلام، تحت طائلة الملاحقة القانونية. ولم يشعر الجلادون بالقلق على الإطلاق، ولم يقدّموا أي اعتذار علني. أمّا المسيرات في الشوارع وترديد الشعارات بكل من اللغات العربية والفرنسية والأمازيغية، جنبًا إلى جنب، نساء ورجالًا وأطفالًا، إسلاميين وانفصاليين، يساريين وليبراليين، ربما لم تسمح بتخطي صدمة الحرب الأهلية بالكامل، إلا أنّه قد بات مؤكدًا أنّ خوف الجزائريين من بعضهم البعض قد تبدّد. فعلى الرغم من بطش النظام المستمر، نجح الحراك الشعبي في فرض شعار جديد - “سلميّة” - شعار يشير بالتأكيد إلى الطابع السلمي للحراك، ولكن أيضًا اشتقاقيًا إلى السلام، وهو شرط ضروري لأي ثورة في المستقبل.