الحبيب بلكوش:  تفاوتات مسلسل الديمقراطية وتحديات انجاز الحق في التنمية في البلدان المغاربية

الحبيب بلكوش:  تفاوتات مسلسل الديمقراطية وتحديات انجاز الحق في التنمية في البلدان المغاربية الحبيب بلكوش، رئيس مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية خلال مشاركته في الملتقى
ألقى الأستاذ الحبيب بلكوش، رئيس مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية، يوم الجمعة 1 مارس 2024، عرضا حول "تفاوتات مسلسل الديمقراطية وتحديات انجاز الحق في التنمية في البلدان المغاربية" ،  وذلك خلال الملتقى الذي نظمه  المرصد الدولي للسلم والديمقراطية وحقوق الإنسان بجنيف على هامش الدورة 55 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والمخصص لموضوع "الحق في التنمية والحكامة الديمقراطية كمكون له وانعكاسها على حقوق الإنسان باعتبارها غير قابلة للتجزيء". "أنفاس بريس"، تنشر النص الكامل للعرض:

تطور الحق في التنمية كمعيار دولي على قاعدة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كرسها عهد دولي خاص اعتمدته الأمم المتحدة سنة 1966 في ظل رئاسة امرأة مغربية اسمها حليمة الورزازي التي كانت ترأس اللجنة الثالثة المكلفة بإعداد العهدين، واستطاعت خلال ولايتها أن تحقق التوافق المطلوب لاعتمادهما بعد مخاض ومفاوضات دامت لأزيد من 16 سنة.
 
والآن نحن على ابواب اعتماد اتفاقية دولية خاصة بالحق في التنمية بعد ما يقارب 40 سنة على اعتماد إعلان الحق في التنمية سنة 1986 من قبل الأمم المتحدة.
 
إن هذا التطور في المعايير يعكس أيضا انشغال المنتظم الدولي أمام تنامي الفوارق الاجتماعية والإقليمية والدولية واتساع دائرة الفقر والتهميش والإقصاء في حق فئات واسعة من السكان. ونشير على سبيل المثال لا الحصر الى أن  %53 من سكان العالم، أي أزيد من 4 ملايير من لبشر لا يتوفرون على حماية اجتماعية حسب تقرير دولي سنة 2021 ولا شك أن هذا الوضع يؤدي في جميع مناطق العالم تقريبا إلى توترات وانعدام الاستقرار كما يتمخض عنه التطرف العنيف والإقصاء وغيرهم من الإيديولوجيات الهوياتية والعنصرية.
 
ونعرف من جهة أخرى أن التفكير في قضايا الحق في التنمية لم يعد تحديده يقوم فقط على مؤشرات رقمية مثل نسبة النمو والتضخم وغيرها على أهميتها، بل تعدى ذلك منذ أزيد من ربع قرن إلى مقاربة التنمية البشرية (Développement humain) التي تدمج البعد الحقوقي في تقييم السياسات التنموية وتجعل الإنسان محورها وهدف مخرجاتها  ومشارك فاعل في تحقيقيها، وهنا تأخذ الحكامة (أو الحوكمة) كل أبعادها الحاسمة في تحقيق التنمية بكل أبعادها. ان أية سياسة وأي اختيار في هذا المجال وفق الأبعاد المشار إليها يتطلب مقاربة تشاركية تجعل المواطن عنصرا فاعلا وصانعا لفعل التنمية وبرامجها وحاملا لمشروع مجتمعي ديمقراطي يضمن الحقوق، وضمنها الحق في المشاركة،  ويحدد الأولويات والواجبات ويسمح بالتقييم ومساءلة.

فماذا عن المنطقة المغاربية؟ لقد كان المشروع المغاربي مُعَبِّئًا خلال مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال فعلا وموقفا وتصورات كانت من تجلياته مثلا انتفاضة الدار البيضاء سنة 1952 ضد اغتيال الاستعمار للقائد النقابي والوطني التونسي فرحات حشاد والتي ذهب ضحيتها مئات من المغاربة، واحتضان المغرب الحديث العهد بالاستقلال للقادة التاريخيين لجبهة التحرير الجزائرية زمن حرب التحرير، لنصل إلى إعلان طنجة سنة 1958 الصادر عن قادة الحركات الوطنية في تونس والجزائر والمغرب من أجل بناء المغرب العربي وصولا إلى  تاسيس اتحاد المغرب العربي بمدينة مراكش سنة 1989 بحضور رؤساء الدول المغاربية : ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا؛ والذي يبدو الآن وكأنه حلم تعمل اختيارات سياسية ونظرة هيمنة لدى البعض للقضاء عليه.

والحال اننا نتحدث عن منطقة لها مقومات جيو استراتيجية قوية، وتكامل في الموارد الطبيعية التي بإمكانها فرز قطب قوي على المستوى الافريقي، وشريك ومحاور وازن لأروبا، إلا أن البعض عمل كل ما في وسعه لإعاقة تحقق هذا البناء.
إن الوضع الحالي لا يبعث على تفاؤل كبير. ذلك أن جزءا من المنطقة المغاربية يعيش وضعا كارثيا خطيرا يهدد وحدة البلاد ومستقبل السلام والاستقرار، كما أن مسار المصالحة وبناء مقومات لمؤسسات الدولة المعبرة عن إرادة التوافق وراسمة لأفق البناء لازال بعيدا جدا. أما إرث ثورة الياسمين فقد تحول إلى كابوس استبداد أتى على إرث مشروع ديمقراطي ولد امالا كبيرة في البلد وخارجها، كما وجد هذا الكابوس ترجمته في حل المؤسسات الرسمية والغاء كل معارضة نقدية والزج بمسؤوليها في السجون . ويمكن اعتبار ذلك ناتج أيضا عن كون صناع الثورة لم يستطيعوا بناء الآليات والمقاربة اللازمين لحماية المكتسب وتسوية الخلافات بالآليات الحديثة والابتعاد عن روح الهيمنة والاستحواذ. أما التغيرات الديمقراطية والسلمية للحراك في بلد قريب فقد تم خنقها من خلال تفعيل المقاربة الأمنية  المعتمدة منذ زمان لإسكات كل صوت حر أو دينامية اجتماعية مستقلة أو منتقدة للسلطة. أما في الجهة الجنوبية، فإن بلدا خرج للتو من دوامة الانقلابات كنظام حكامة للتناوب على السلطة،  وظل يجتهد لضمان استقراره في ظل محيط متوتر وتجادبات قوية مما يجعل اختياره الحياد كسياسة يخدم طموحه و مصالحه واستقلاله، ويساهم في ضمان السلم والتعاون والحوار البناء. إلا أن مخاطر الانزلاق في توجه أحادي قد تعصف بمكتسبات البناء والتعاون الذي حققه خلال السنوات الماضية.

وتبقى التجربة التي سأسميها لأنها تهم بلدي المغرب، وذلك لكونها التجربة التي تمكنت من مراكمة التحولات والتغييرات في ظل استمرارية النظام مع إعادة النظر في سياسته وتوجهاته، الأمر الذي مكنه من بناء تجربة دامجة ومتفاعلة مع انتظارات فئات متعددة منها المصالحة السياسية مع المعارضات اليسارية والإسلامية وإدارتهما للشأن العام، أو مع حركة حقوق الإنسان في مجال العدالة الانتقالية والحركة النسائية في مدونة الأسرة والحركة الأمازيغية في مجال الحقوق الثقافية واللغوية والفئات المهمشة اجتماعيا من خلال برامج التنمية وتقييمها  الدوري.

وهذا ما مكن من ضمان استقرار وتطور مؤسساتي واقتصادي مبنى على التراكم لا على القطائع، وعلى الحوار والتفاعل لا على العنف. إلا أن هذه التجربة تعاني من خصاص داخل نخبها السياسية التي لها دور التدبير والتأطير والوساطة، كما أنها محاطة بجوار معاد يرفض كل محاولة للانفتاح والحوار والتعاون كان آخر تعبيرات ذلك إغلاق الحدود أرضا وجوا، وإيقاف اشتغال الأنابيب الناقلة للغاز عبر المغرب وإلى اسبانيا وغيرها من المواقف العداءية.  من هنا يصبح الحديث مغاربيا عن التنمية البشرية كمقاربة شاملة تستدعي حكامة ديمقراطية أمرا بعيدا عن واقع حال الدول التي أشرنا إلى اهم مقومات الحكم فيها المعادية للديمقراطية وحقوق الإنسان. 

هل يدعونا هذا الوضع إلى إقبار هذا الطموح الجميل نهائيا؟ ان بوصلة العاملين والنشطاء في مجال حقوق الإنسان هي الأمل في غد أفضل وطول النفس من أجل ذلك. لهذا،  ورغم الظرفية الصعبة وعوامل الخيبة، سنواصل العمل مع كل الفاعلين من نشطاء في مختلف المواقع وقوى حية من كل بلدان المنطقة من بناء الجسور والقنوات اللازمة  للحوار والعمل المشترك ونصرة السلم وحقوق الإنسان في المنطقة المغاربية من أجل حكامة ديمقراطية لا محد عنها لضمان تنمية انسانية تعطي الأمل للأجيال الصاعدة والقادمة.