مكناس.. الحقوقي مبارك بودرقة يسترجع بعض محطات العدالة الانتقالية بالمغرب

مكناس.. الحقوقي مبارك بودرقة يسترجع بعض محطات العدالة الانتقالية بالمغرب مبارك بودرقة والمصطفى المريزق(يسارا) وجانب من الحضور
"بوح الذاكرة وشهادة الوثيقة. من سنوات الجمر والرصاص إلى تجربة الإنصاف والمصالحة "، هذا هو الموضوع الذي تمحور حوله اللقاء المفتوح الذي نظمته الجامعة الشعبية المغربية بمكناس مع الكاتب والحقوقي مبارك بودرقة .
اللقاء الذي احتضنه قصر التراب بمكناس،  الخميس 22 فبراير 2024 تميز بحضور العديد من الشخصيات السياسية والمدنية والحقوقية، وثلة من الأساتذة الجامعيين والطلبة الباحثين والمهتمين بموضوع العدالة الانتقالية، استهل بكلمة المصطفى المريزق رئيس الجامعة الشعبية المغربية الذي تساءل عن علاقة  الذاكرة الجماعية بسؤال الهوية، بمعنى هل نحمل بين أكتافنا الماضي ونطوف ونجول به في كل مكان أم نريد من استعادة الماضي بما يحمله من جراح، بعضها لم يندمل بعد، أم نريد ذاكرة متجددة في شكلها ومضمونها الجمعي من البوح نحو المستقبل ومواجهة التحديات وتحقيق طموحات الشباب والشابات الذين لا يعرفون أي شيء ولم يعيشوا سنوات الجمر والرصاص. 
وأشار المتحدث أن الجامعة الشعبية تؤسس للانتقال من ذاكرة شفوية الى ذاكرة جمعية مكتوبة، مشيرا بأن كتاب مبارك بودرقة " بوح الذاكرة وإشهاد وشهادة الوثيقة " الصادر سنة 2020  تطرق الى أحداث 3 مارس 1973، واختار الكاتب الحديث عن تجربته الحقوقية  معززا ذلك بالوثائق سواء في حديثه عن مسيرة الراحل صاحب "رسالة باريس"  بجريدة الاتحاد الاشتراكي حرمة الله باهي، وكذلك تجربة الراحل عبد الرحمان اليوسفي.
وأضاف المريزق أن الحديث عن بودرقة يتعلق بالحديث عن سياسي سلمي، مسلح، جمعوي وحقوقي، كان مسكونا بهاجس التوثيق وهو اليوم حقوقي بارز كرس حياته للإسهام في حفظ الذاكرة،  عمل داخل ديناميات المنفى والمنفيين والمعتقلين وعائلاتهم وكل ضحايا سنوات الجمر والرصاص وضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وصولا الى العهد الجديد وعهد المصالحة والإنصاف.
كما تطرق المريزق الى تجربة العدالة الانتقالية، مشيرا بأن ما يمييزها ويجعل من الاستثناء على مستوى العالم هو كونها تمت في ظل استمرارية نظام الحكم، وأكثر من ذلك أن دستور 2011 دستر كل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ليبقى بعد ذلك دور الفاعلين السياسيين والحقوقيين ودور الحكومة ودور المشرع في تكريس وتنزيل فعلية تلك الحقوق وتلك المكتسبات التي جاء بها دستور 2011.
 في نفس السياق قال الكاتب والحقوقي مبارك بودرقة في مداخلته إن التفكير في إنشاء هيئة الحقيقة انطلق منذ التحاقه بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بدعوة من الملك كممثل عن الجالية المغربية المقيمة بالخارج في شهر دجنبر 2002، حيث وافق على الالتحاق بالنظر لكون الدعوة جاءت برغبة المن الملك، وثانيا لكون العمل داخله كان تطوعيا، مضيفا بأن ما ميز التجربة المغربية هو أنها لم تكن على أنقاض انهيار حكم  عسكري ديكتاتوري أو حرب أهلية بخلاف جميع تجارب العدالة الانتقالية في العالم، مشيرا بأن المجلس شرع في إعداد توصية بعد ذلك من أجل رفعها للملك تحت عنوان " هيئة الحقيقة والمصالحة " بعد الاطلاع على العديد من التجارب العالمية بهذا الخصوص، مضيفا بأن بعض الأعضاء اعترضوا على التسمية، لكن ما دام الأمر يتعلق برفع توصية للملك فكان من الضروري الحصول على الإجماع، لذلك تم الاتفاق على تسمية " هيئة الإنصاف والمصالحة "، ولكن عند استقبال أعضائها بمناسبة تنصيبهم من طرف الملك بمدينة أكادير، خاطبهم الملك بالقول : " أنتهم هيئة الحقيقية والإنصاف والمصالحة " كما أن القانون الأساسي للهيئة والمنشور بالجريدة الرسمية سماها " هيئة الحقيقة والإنصاف والمصالحة "، واستطرد المتحدث بكون الفضل في وجود هذه التجربة يعود للإرادة الملكية، مضيفا بأنها تعد التجربة الوحيدة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، قبل أن يعرج للحديث عن المعتقل السري " تازمامارت " والذي كان يضم  ثلاثة عمارات، و كان السكان المحليون ممنوعون من إشعال الشموع وإقامة الأفراح، كما كانوا محرومين من جميع  الوسائل ( غياب الطريق، غياب الكهرباء..)، ولم تكن هناك أية لافتة تدل على المكان قبل وضعها فيما بعد، وأشار بودرقة أن هيئة الإنصاف والمصالحة طلبت الحفاظ على العمارات الثلاث الواقعة بالسجن السري من أجل إقامة مؤسسات تعليمية، فرفض الجيش، مما فرض عليها الاحتكام الى الملك محمد السادس الذي أبدى موافقته على الحفاظ على العمارات، وأشار المتحدث أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان يعمل حاليا على مشروع لاقامة 50 هكتار من الزيتون و50 هكتار من اللوز، 50 هكتار من الصبار و 300 هكتار من الأعشاب الطبية، وعلى مشاريع أخرى تتعلق بتربية الماعز وإنتاج الجبن وإنتاج العسل، وفيما يتعلق بالزنازن أشار بودقة أنه تم الحفاظ عليها كما أن تحمل أسماء المعتقلين الذين كانوا مسجونين داخلها.
ضيف الجامعة الشعبية المغربية تحدث عن تجربة لجنة التحكيم بهيئة الإنصاف والمصالحة والمعايير التي اعتمدتها في تحديد التعويض المناسب لضحايا سنوات الجمر والرصاص، حيث أشار على سبيل المثال الى أن  التعويض الخاص بالمعتقلين السريين كان يفوق التعويض لدى نظرائهم في السجن الرسمي، كما اعتمدت اللجنة مبدأ التمييز الإيجابي فيما يتعلق بالتعويضات المخصصة للنساء. ولم يقتصر الأمر على التعويض المادي بل شمل أيضا  التعويض الإداري، ففي عهد حكومة عبد الرحمان اليوسفي تمت إعادة العديد من المناضلين النقابيين الذين اعتقلوا و طردوا من وظائفهم، وتمكنوا على إثر ذلك من استرجاع مختلف حقوقهم ومكتسباتهم وكأنهم لم يغادروا وظائفهم، إلى جانب الإدماج الاجتماعي لأبناء المعتقلين عبر التعويض أو عبر تمويل مشاريع لفائدتهم أو تسليمهم شقق للسكن الاجتماعي.
وفيما يتعلق بجبر الضرر الجماعي، ميز بودرقة بين المناطق التي وقعت فيها أحداث اجتماعية خطيرة مثل خنيفرة ، حيث تمت برمجة مشاريع للبنيات التحتية ( الطرق، الكهرباء..) والمناطق التي كانت تضم معتقلات سرية مثل تازمامارت وقلعة مكونة .
وجوابا عن سؤال : لماذا لم تطرح مسالة مساءلة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سنوات الجمر والرصاص، قال بودرقة إنه كان من السهل تحديد قائمة تضم 50 مسؤولا عن الانتهاكات وضمنهم الجنرال محمد أوفقير والجنرال أحمد الدليمي..لكن هذه المقاربة – بحسب بودرقة – ليست صحيحة، حيث ارتأت هيئة الإنصاف والمصالحة الاعتماد على المقررات التحكيمية والتي أشارت من خلالها إلى أسماء ومكان اعتقالهم وزمن اعتقالهم والأضرار التي لحقتهم جراء الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في تلك الفترة، وبكون المسؤول عن الأضرار التي أصابتهم هي الدولة المغربية، وهي وثيقة رسمية لها قيمتها عندما يتعلق بعرض ملفات أمام أنظار القضاء
واختتم اللقاء بمداخلات الحاضرين والتي  تفاعل معها ضيف الجامعة الشعبية مقدما بعض الإضاءات والتوضيحات أغنت النقاش، قبل أن يسدل الستار على اللقاء بتوقيع كتاب مبارك بودرقة " بوح الذاكرة وشهادة الوثيقة..من سنوات الجمر والرصاص إلى تجربة الإنصاف والمصالحة ".