في إحدى دراساته البيئية حول شاطئ الوليدية، أكد محمد وفقي، فاعل جمعوي مهتم بالبيئة، أنه خلال مرحلة الاستعمار شكل شاطئ الوليدية منتجعا للمعمرين الفرنسيين الذين كان أغلبهم من ممارسي الأنشطة الفلاحية بمناطق داخلية في عبدة ودكالة. وكان أغلب ساكنة الوليدية بالمركز حينذاك يشتغلون عندهم، في حين كان البعض يشتغل على الفلاحة والرّعي والصّيد في إطار الاكتفاء الذاتي. وأوضح محمد وفقي أنه خلال العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين كانت الوليدية غنية بالأسماك والنباتات والصدفيات، بل كانت القبلة المفضلة للمغفور له محمد الخامس، وعلى شاطئها كان قصره العامر محجا لقبائل دكالة، ولأقطاب الحركة الوطنية.في هذا السياق يقول بأن قصر الملك «كان مفتوحا لعموم الناس، ولكن كانت العفّة والتعفّف، حيث كان الطلب رضى الملك كلما التقوا به يتجول على شاطئ البحيرة». أما في العقدين السادس والسابع من القرن الماضي فقد «عرفت الوليدية شهرتها في إنتاج الخضراوات، خاصة الطماطم. إذ أصبح ماصدق الوليدية من زاوية سيدي الراضي على ساحل عبدة إلى ساحل سيدي عابد على ساحل دكالة. وكثرت التعاونيات الفلاحية المتخصصة في تلفيف الطماطم قصد التصدير. وأصبح كل شيء وخاصة العنصر البشري في خدمة الطماطم والجزر».
![](https://anfaspress.com/manager/photos/shares/منى الصولدي/WhatsApp-Image-2024-01-27-at-14.47.59.jpg)
بحيرة الوليدية الحية التي تسعى
تعتبر الْبُحَيْرَة، هي قوام الوليدية، لولاها ما كان لها ذكر أو شأن تاريخي، كأنها حيّة تسعى،ـ طولها 8 كلم بعد أن كان 12 كلم ـ هذا التقلص في الطول سببته سبخات الملح التي أكلت من ذيلها،أما رأسها فيستقر على شاطئ رملي ذهبي يتصل بالمحيط الأطلسي عبر ثلاث أبواب.فالباب الكبير الأوسط هو فم الحية (يسميه الأهالي: الفم الدافع)، والأخريين عيناها، أما مجراها الموازي للمحيط فيخترق المنطقة المقعرة من الوليدية المعروفة بـ "الْوَلْجَةْ" وهي الأراضي الصالحة للزراعة.أماالْمَرْجَةْ، فهي الأراضي الرطبة التي تغمرها المياه القادمة من المحيط تبعا لحالة المد والجزر، فيتسع حجم البحيرة في حال المد،ويضمر في حال الجزر، معرّيا عن «الْمَرْجَةْ» بمخاريطها وجزيراتها ونباتاتها وحيواناتها وطيورها. وتأثير المد والجزر على المناظر الطبيعية للبحيرة الجميلة وتغيرها في كل لحظة يوحيان بعلاقة عشقية بين البحيرة والقمر.
يسترجع محمد وفقي ذاكرته في هذا الشأن حيث يصف بقوله: «كانت البحيرة غنية بتنوعها الإحيائي من أسماك، وسرطانات، وصدفيات، ونباتات، وطيور». وعن روافد مياهها يضيف قائلا: «كانت البحيرة تجمع بين ثلاث مياه قادمة من البر والبحر والسماء. وكانت تشكل مصدر عيش للساكنة بالصيد منها، وأحيانا الرعي في مَرْجَتِها، وموقعا ملائما لتربية المحار، كما كانت الْوَلْجَةْ المكان الملائم للأنشطة الفلاحية».
خطر التدهور البيئي بشاطئ الوليدية:
لإبراز التدهور البيئي الذي عرفته البحيرة يقترح محمد وفقي الإطلاع على الدراسة العلمية التي قدمتها خديجة قايد راسو، لنيل درجة الدكتوراه سنة 2008 تحت عنوان: «دراسة التفاعلات بين المياه الجوفية والمياه السطحية في منطقة الحوض الساحلي لبحيرة الوليدية». إذ في هذه الأطروحة دقت ناقوس الخطر، حيث خلصت الدراسة العلمية والتي انتهت إلى توقع علمي كارثي لتطور بحيرة الوليدية على المدى الطويل، وتطرح احتمالين (سيناريوهين):
ـ السيناريو الأول: نقص في حمولة المياه الجوفية العذبة، مما يسبب ارتفاعا في ملوحة مياه البحيرة ويخل بنظامها البيئي.
ـ السيناريو الثاني: أن التمدد العمراني على شاطئ بحيرة الوليدية سينجم عنه تراجعا للشاطئ وتطمر الرمال رأس البحيرة والمداخل التي تغدي البحيرة بمياه البحر القادمة من المحيط، أي ستقتل الحيّة من رأسها بعد أن جرحت في ذنبها.
وبالفعل كانت التوقعات كارثية تغير شكل البحيرة إلى الأسوأ، وفقدت دورها الاقتصادي، والسياحي. «لا سمك ولا محار...»، وماتت الوليدية. أليست البحيرة هي قوام الوليدية؟ وهي من استهوت العرب والعجم، أما الأمازيغ فالأسماء القديمة للأماكن تشي بأنهم أهل البلاد.
أفول زمن وليدية الفلاحة أمام زحف السياحة المفترى عليها:
يَذكُر أهل الوليدية على لسان محمد وفقي أن ممثل دكالة في البرلمان وقتئذ كان يواجه طلبات توفير مؤسسة للتعليم الثانوي بالرد «المأثور» (مَلِّي تْقَرِّيوْ الدْرَارِي. شْكُونْ غَادِي يْرَبَّعْ عْلِيكُمْ؟) «الرَبَّاعْ: كان يقدم عمله في حقل الطماطم مقابل رُبُعِ الرِبح الصافي». ومع التحول من المهن الفلاحية إلى المهن السياحية انضافت مشكلة أخرى أمام إنتاج الطماطم، مثل مشكل التكلفة والتسويق،فأفل زمن وليدية الفلاحة، وحل زمن السياحة،الذي أطلق عليه الباحث البيئي باستعارة زمن «شَمْسُ الضِّبَاعْ».
للإشارة فإن «شَمْسُ الضِّبَاعْ» بالنسبة له، ليس في هذاالعنوان من معاني قدحية، إلا ما قصده المخرج التونسي «محمد رضا باهي» في فيلمه الذي يحمل نفس العنوان. ففيه وبروح سوسيولوجية ثاقبة، رصد لمختلف التحولات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية التي عرفتها بعض المجتمعات العربية ومنها المغرب، بفعل سياسة الانفتاح السياحي. ويمكن اعتبار شريط «شَمْسُ الضِّبَاعْ» نموذجا، والوليدية طراز له. فهناك شبه تطابق بينهما خاصة في عقدالثمانينات من القرن 20. ومن أراد ملامسة مختلف التحولات التي عرفتها وتعرفها الوليدية كنقطة جدب سياحي فعلية بمشاهدة الفيلم. يوضح محمد وفقي.
من خدمات الفلاحة والصيد البحري إلى خدمة السياحة:
يرى الباحث محمد وفقي أن كثافة الأنشطة السياحية كان لها الأثر البالغ ليس فقط على البنية التقليدية لمجتمع الوليدية، بل وكذا على الجانب البيئي، خاصة في ظل انعدام شروط المحافظة على البيئة. ومع اشتداد حرارة أشعة «شمس الضباع» تحول كل شيء، حتى الجمال والأضرحة في خدمة السياحة والسياح خارجيين وداخليين «بعد أن كان كل شيء في خدمة الطماطم». حيث انطلقت غزوة ما أسماه بالإسمنت والحديد «المنهشون العقاريون»، بعد أن كانت أغلب سكنيات الشاطئ القليلة مشيدة بالخشب في أغلبها، وتحولت الكثبان الرملية المحاذية لـ «لَكْصَيْعَةْ» والفضاءات الجميلة وحتى الأراضي الزراعية إلى بنايات وفنادق.
هكذا سيقرأ نفس المتحدث غزوة الإسمنت بقوله: «تطور عمراني شبه منظم وعشوائي، وحولت قوارب الصيد وجهتهامن الصيد إلى قوارب سياحية تجوب البحيرة للنقل والترفيه،باستثناء قوارب قليلة تنتظر تحقيق الحلم التاريخي الضائع حلم مرسى الوليدية. ووهنت البنية التقليدية لمجتمع الوليدية مقابل تزايد سكاني بفعل الهجرة إليها ودخول قطاع الخدمات». وارتهنت ساكنة الوليدية بسياحة موسمية.»لانتكلم هنا عن السياحة الراقية للخاصة»، ورافق ذلك التحول تخريب بيئي للبحيرة وللفضاءات الجميلة بالوليدية «تفويت المخيم الدولي وتحويله إلى فيلات إسمنتية مثلا».
فـي زمن «رامسار» تغير مذاق بلح البحر والمحار
«من المفارقات أنه من مياهإيران قدمت سفينة «خرج» لتغرق في المحيط الأطلسي قبالة الوليدية (بين 18 و24 دجنبر 1989) فتسببت في كارثة بيئية. بعدها لم يعد لأنواع كثيرة من الصدفيات أثر على الشاطئ الصخري للوليدية في كثير من الأماكن (وحرم الناس من هواية قطف بلح البحر). ومن إيران جاءت اتفاقية «رامسار» التي كان من المفروض أن تعيد الحياة إلى تلك الصدفيات. على اعتبار أن هذه الاتفاقية تشكل معاهدة حكومية تم التوقيع عليها في 2 فبراير 1971 بمدينة رامسار الإيرانية، وتعنى المعاهدة بـ «الحفاظ والاستخدام الرشيد لجميع الأراضي الرطبة من خلال الجهود المحلية والإقليمية والوطنية،ومن خلال التعاون الدولي، وذلك للمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة في جميع أنحاء العالم».
الأراضي الرطبة: هي الأماكن التي تمثل فيها المياه العامل الأساسي المسيطر على البيئة وعلى الحياة النباتية والحيوانيةالمرتبطة بها، ومن الأراضي الرطبة البحرية، البحيرات الساحلية والشواطئ الصخرية، نستحضر حالة الوليدية.
الاستخدام الرشيد: فهو الإنتفاع المستدام بها لتحقيق مصالح الجنس البشري بطريقة تتوافق والمحافظة على الخصائص الطبيعية للأنظمة البيئية، والإنتفاع المستدام يعني الإستخدام البشرى للأراضي الرطبة بشكل يؤدي إلى تحقيق أكبر إفادة مستمرة للأجيال الحالية مع الحفاظ على هذه الأراضي لتتمكن من تلبية احتياجات الأجيال المقبلة وتطلعاتها. كل ذلك في إطار تعاون دولي.
لماذا إدراج الوليدية ضمن معاهدة «رامسار»؟
نظرا لتوفر «بحيرة» أو «خليج» الوليدية وشواطئها الصخرية، دون أن ننسى «السّبخة» على مواصفات ومؤهلات الأراضي الرطبة، أدرجت الوليدية سنة 2005، ضمن المواقع العالمية المحمية بمقتضى معاهدة «رامسار».
وحظيت مبادرة حماية البحيرة بعناية ملكية تعكسها الزيارتين الملكيتين لمدينة الوليدية، الأولى كانت بتاريخ 3 نونبر 2007، والثانية بتاريخ 22 أبريل 2010، لتدشين والإطلاع على سير عدد من المشاريع المبرمجة لتجاوز بعض مظاهر الاختلالات البيئية التي تهدد البحيرة، والناتجة عن ضغط التوسع العمراني والانشطة الملوثة. وكانت أهم المشاريع تتعلق بشبكة صرف المياه العادمة وأخرى لمياه الأمطار، إلى جانب محطة معالجة المياه العادمة، ثم المخطط المندمج لتأهيل الوليدية وحماية بحيرتها، فضلا عن مشروع إنشاء محطة لمعالجة الخضراوات وتنظيم قطاع الحليب، وتهيئة الحزام الأخضر بغرس 30 ألف شجرة كليبتوس. (كان من اللائق غرس شجرة الأركان بالمنطقة. ولكنه جهل بالتاريخ البيئي لمنطقة الوليدية وعدم إشراك واستحضار الساكنة المحلية في اتخاد القرارات، إضافة إلى مشروع مركز للإعلام للتحسيس والتربية البيئية.
هل لقيت المشاريع الملكية مواكبة تليق بها؟
في هذا السياق يعلق محمد وفقي بقوله: «هذه مشاريع بيئية تنموية كبيرة وطموحة تعكس رغبة كبيرة وكريمة في إغاثة بحيرة الوليدية، ولكنها رغبة لم تجد مواكبة تليق بها، مما انعكس سلبا على ساكنة الوليدية». وسجل ملاحظات أساسية ترتبط بموقفه إزاء هذه المشاريع من خلال، غياب حملات تحسيسية وعدم إشراك الساكنة العميقة التي من المفترض أن تستفيد من المشاريع التنموية المبرمجة والممكن اقتراحها. علاوة على التأخر الملحوظ في إنجاز ما هو مسطر من مشاريع، واللجوء أحيانا إلى التمويه لحجب هذا التأخر، مما تسبب في ركود تنموي انعكس على ساكنة الوليدية،حيث خلص إلى أن واقع الحال ينذر بتذمر ويتعارض مع أهداف الاستخدام الرشيد والتنمية المستدامة.
اقتراحات وفقي للخروجمن الركوض:
للخروج من هذا الركود طالب الباحث محمد وفقي بأهمية القيام بحملات تعُرِّف بمقتضيات اتفاقية «رامسار» وأهدافها والإجراءات المقررة أو المزمع اتخاذها، وإشراك الساكنة وتأطيرها بهدف خلق وعي بيئي وتعريف بالمنفعة التي يمكن تحقيقها من المحافظة على مجالها البيئي. وشدد على ضرورة استثمار امكانيات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والمساعدات الدولية التي يمكن الحصول عليها في مشاريع مدرة للدخل لفائدة الساكنة خاصة الشابة العاطلة عن العمل منها ذكورا وإناثا بالمناصفة وما أكثرهم في الوليدية المركز والدواوير المحيطة بها.
![](https://anfaspress.com/manager/photos/shares/منى الصولدي/WhatsApp-Image-2024-01-27-at-14.47.59-(1).jpg)
وطالب أيضا بخلق تعاونيات في مجالات الانشطة الاقتصادية الممكنة كتربية المحار وتدبير نفاياته «لتصنيع غبرة المحار مثلا» وإنتاج الحليب وتربية الماشية والفلاحة. ثم إحداث مركز للتكوين المهني في مجالات الأنشطة الانتاجية البحرية كزراعة المحار وتربية الأسماك والأعمال الفلاحية البرية لفائدة أبناء المنطقة.واستحضر أهمية إحداث مشروع مركز التداوي بمياه البحر ـ تلاسوتيرابي ـ للاستفادة من الامكانيات العلاجية التي تتيحها مياه البحيرة وكذا المياه الجوفية التي تصب فيها. لاننسى العلاج بـ «الغيس ـغيس سويغات».
ومن ضمن اقتراحاته أيضا تنظيم مراطون للسباحة يكون مجري البحيرة حلبة له بهدف خلق إشعاع بيئي دوليبالوليدية ببحيرتها وشواطئها الصخرية والرملية وتنشيط سياحي. مع تركيزه على تأهيل قصبة الوليدية لتشكل مركزا اجتماعا وثقافيا واقتصاديا بدل الحال المخزي الذي توجد عليه الآن كمستودع للمحجوزات والمتلاشيات، وفي ذلك تدمير للبيئة الثقافية والتاريخية.
وركز وفقي أيضا على ضرورة إعادة الاعتبار للشطر الثاني من «السبخة» كموقع رطب. والسبخة المعنية في حديثه هي التي شيد على نصفها الساحة الكبرى ساحة محمد الخامس، على اعتبار أن المكان كان مجمعا لمياه الأمطار ومأوى لأصناف من الطيور المهاجرة.
وطالب في هذا السياق بأهمية القيام بمراجعة جذرية لوضعية الملاحات التي أكلت من ذنب البحيرة أربعة كلم، حيث أخلت بتوازنها البيئي وأضرت بالأراضي الفلاحية المحاذية للبحيرةبالولجة، وبمياهها الجوفية.
وعزز اقتراحاته بشرط تفعيل دور الشرطة البيئية للحد من أعمال التخريب للبيئة منها على سبيل الأهمية قنص الطيور المهاجرةبالشباك ليلا وهي في أوكارها بعد ترويعها بطلقات رصاص. علما أن الصيد بشباك عيونها ضيقة جداتتعارض ومعايير الصيد.فضلا عن اقتلاع الصدفيات «بلح البحر وأصبع العبد» بالمطرقة و«البيران».
وأنهى محمد وفقي اقتراحاته بالقول: «يبقى التحدي هو كيف الموافقة والملائمة بين متطلبات الأنشطة السياحية ومقتضيات معاهدة «رامسار»، وما السبيل للخروج من واقع الحال للفئات الاجتماعية الهشة والمرهونة بالأنشطة الموسمية إلى تنمية رشيدة ومستدامة تخدم البشر ويكون المحار وسيلة لا غاية».