1- لم يكن انتخاب المغرب رئيساً لمجلس حقوق الإنسان مفاجئاً للمتتبعين للسباق الانتخابي اعتباراً لما أصبح يحظى به من مكانة حقوقية تنطلق من تصفية تركة الماضي، مسار العدالة الانتقالية ثم الإصلاحات السياسية والتشريعية والمؤسساتية، التي قام بها بروح ومرجعية حقوقية كونية، وهي المرجعية التي أهلته ليتقلد المنصب الحالي في أعلى جهاز تقريري وتدبيري لحقوق الإنسان في العالم بمرجعية ميثاق الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الإنسان سواء منها القانون الدولي لحقوق الإنسان أو القانون الدولي الإنساني.
لقد ظل المغرب، منذ انخراطه في هذا المسار، متفاعلاً بشكل إيجابي مع مختلف الآليات الأممية، وتقلد في «رحلته» داخل مجلس حقوق الإنسان قبل أن يصل إلى رئاسته، عدة مهام في اللجان الأممية المعنية بحقوق الإنسان، بحيث تواجد منذ سنة 2006 في 10 آليات أممية وسجل حضوره في 19 فريق عمل تابع للمجلس، بمعنى أن هذا التتويج لم يكن اعتباطياً، وأن هذه الثقة لم تكن مجاملة، بل هذا الدعم الواسع كان نتيجة هذا المسار الاستراتيجي ضمن الرؤية الجديدة التي وضعها المغرب في مرحلة ما بعد تقديم التقرير النهائي لعمل هيئة الإنصاف والمصالحة.
2- لقد كان المغرب مرشحاً وحيداً باسم القارة الإفريقية قبل أن يتم الدفع بجنوب إفريقيا لمحاولة شق الصف الإفريقي والتشويش على الملف المغربي، لكن الرد كان واضحاً من خلال حصول السفير المغربي بمجلس حقوق الإنسان على الأغلبية الساحقة لأصوات المجموعة الإفريقية، حيث حصل على 10 أصوات فيما حصلت جنوب إفريقيا على 3 أصوات بما فيها صوتها هي لتكون دولتان إفريقيتان فقط هما من صوتتا على جنوب إفريقيا مما شكل هزيمة نكراء ليس لهذا البلد الذي لم يُرِد بعد أن يفهم التحولات العالمية الجارية ولا دعمه المغشوش «لتقرير المصير»، الذي لم يؤد إلا لعزلته، بل كانت هذه الهزيمة أيضاً لكل المحور الذي يمتد من جنوب إفريقيا إلى النظام الجزائري وصولاً لـ»فرانس24 «، التي اختارت تغطية هذا الحدث بالكثير من اللامهنية أظهرت امتعاض من يقف وراءها ومن يقف كذلك معها في هذه الحملة التي خيضت ضد المغرب، إبان فترة ترشحه، تارة تحت مسمى «غزة»، وأخرى تحت مسمى « الملفات الحقوقية بالمغرب»، وهي كلها مناوشات انتهت بعزلة هذه الأطراف من خلال الدعم الكبير الذي لقيه الملف المغربي بحيث صوتت عليه 30 دولة من أعضاء مجلس حقوق الإنسان في أغلبية ساحقة وبأصوات قادمة من كل القارات والمجموعات الجغرافية التي يتشكل من خلالها المجلس.
3- انتخاب المغرب رئيساً لمجلس حقوق الإنسان يأتي في ظل رهانات دولية جد معقدة طُرحت معها ملفات حقوقية مرتبطة بالعدالة المناخية، الحقوق الرقمية، والقضايا الحقوقية الناتجة عن النزاعات الإقليمية والدولية، منها الحرب، مع ما يعني ذلك من عمل على الحفاظ على الحق في الحياة، وما تتسبب فيه من نزوح ولجوء اضطراري بسببها وبسبب هذه النزاعات، هذه القضايا تجعل من رئاسة المغرب للمجلس موضع محك وامتحان حقيقي لكل التجربة التي سيضعها المغرب تحت تصرف المجلس بإمكانياته وتراكمه في الحفاظ على السلم والأمن والعمل على تسوية النزاعات بالحوار، وهي تجربة سيُسلط عليها الضوء من خلال هذه الرئاسة التي ستشكل نقطة انطلاقة جديدة في مجال حماية حقوق الإنسان والنهوض بها، ليس فقط وطنياً، بل إقليمياً وأممياً، وهو ما سيسلط الكثير من الضوء على المغرب وعلى هذه التجربة.
4- نحن نعيش مع هذا الانتخاب حضوراً دبلوماسياً قوياً للمغرب تحت عنوان دبلوماسية حقوق الإنسان، دبلوماسية تجعل من الحقوق والحريات رهانا استراتيجيا ليس خارجيا فقط بل مرتكزا على ما هو داخلي أيضاً، هذا ما يتطلب منها الاستمرار في هذا العمل الدبلوماسي الحقوقي، وفي الترويج لكل الإصلاحات التي قام بها المغرب، ثم أيضاً الاستمرار في تعزيز المسار الحقوقي من خلال القيام بكافة الإصلاحات الضرورية خاصة منها في المجال التشريعي « مدونة الأسرة، مدونة القانون الجنائي…»، لتكون في مستوى هذه اللحظة وتعكس الانخراط الفعلي والفعال للمغرب في المسار العالمي لحقوق الإنسان، هذا الانخراط يجب أن يوازيه عمل دبلوماسي حقوقي يعزز من تصدير النموذج الحقوقي من زاوية دبلوماسية واضحة تستند على التراكم وعلى الأفق الواسع للفضاء الحقوقي.
5- المغرب تلقى التهاني من كل أصدقائه ومن التكتلات الإقليمية، من البرلمان الإفريقي إلى جامعة الدول العربية إلى عدة دول تتوزع بين مختلف القارات، هذه التهنئات تعكس الحضور المغربي في موقعه القاري والاحترام الذي يحظى به، ووعي هذه الدول بالإصلاحات التي قام بها، وهي إصلاحات تشكل النموذج المغربي الذي يتم تسويقه من خلال هذا الحضور الأممي، وهو حضور سيعزز، بالتأكيد، من فرص الدور الذي سيقوم به المغرب رسميا من خارج المجلس في عدة ملفات سواء منها الملف الفلسطيني، أو الليبي أو الملفات الإفريقية المتعددة، وهي ملفات سيكون للمغرب فرصة أن يلعب فيها دوراً كبيراً سواء أكان سياسياً أو حقوقياً، وهي أدوار تنطلق من الالتزام المغربي تجاه هذه الملفات، وهو التزام سيكون اليوم مضاعفاً من خلال رئاسته للمجلس.
على سبيل الختم؛ المغرب لم ينتصر فقط في هذا الاستحقاق بل أضاف رهاناً جديداً لرهاناته الكبرى التي وضعها منذ بداية ما عرف بالعهد الجديد وتقلد الملك محمد السادس للعرش، وهو رهان يجعلنا اليوم مقبلين على الحديث عن مغرب جديد لجيل جديد من حقوق الإنسان، من موقع رئاسة مجلس حقوق الإنسان، وهو جيل سيطرح القضايا الجديدة الحقوقية التي ستطرح على بلادنا مما يجعل المؤسسات الوطنية المعنية بحماية حقوق الإنسان في قلب هذا التحول الحقوقي الذي يُدشن لمرحلة جديدة من مراحل الإصلاح، ومراحل إعادة التموقع ضمن الرؤية التي وضعها المغرب وشكلت عنواناً بارزاً لما بعد نقطة بداية طي الملفات الحقوقية المرتبطة بسنوات الرصاص، نحن اليوم ننتقل إلى مرحلة جديدة، مرحلة ما بعد طي هذه الملفات وتسويتها، وهي مرحلة يمكن أن تشكل عنوان: مغرب جديد لجيل من الحقوق الراهنة.