على ضوء ما تشهده مدينة فكيك من احتجاجات للسكان ضد تفويت قطاع الماء لمجموعة الشرق للتوزيع، اتصلت "أنفاس بريس" بأحمد نورالدين،المحلل و خبير العلاقات الدولية، لتسليط الضوء على طبيعة هذه الاحتجاجات(بوصفه أحد أبناء فكيك)، وأجرت معه الحوار التالي:
ما سبب هذا تسونامي من حتجاجات ساكنة فكيك التي تدوم منذ أزيد من 74 يوماً؟
بداية، هذه الاحتجاجات والمظاهرات السلمية هي مظهر من مظاهر الديمقراطية وحرية التعبير التي يضمنها الدستور والقانون. ومن هذا الباب يمكن أن نعتبر المسألة صحية وإيجابية وتدل على حيوية المجتمع واهتمام قواه الحية بالشأن العام. كما أنها تدخل في صميم المراقبة الشعبية للمنتخبين، وهي أرقى أشكال الرقابة الديمقراطية،والتي تتفوق على بقية أشكال الرقابة المؤسساتية التي تمارسها مثلاً المفتشية العامة للإدارة الترابية والمفتشية العامة للمالية، أوحتى بعض المجالس الدستورية مثل المجلس الأعلى للحسابات. تتفوق عليها ديمقراطياً وليس تقنياً لأنّ المؤسسات الرسمية تملك إمكانات مادية وبشرية لا يمكن أن تتوفر للمجتمع المدني. ومن هنا تعتبر الرقابة الشعبية والرقابة المؤسساتية مكملتين لبعضهما البعض.
ثمّ إنّ مدينة فكيك لها تاريخ طويل وعريق في نضالات الحركة الوطنية والمقاومة من أجل الإستقلال، ثمّ بعد ذلك في النضالات من أجل بناء دولة الحق والقانون والحريات، وقد كان نصيب أبنائها داخل المدينة وخارجها من ضريبة المواطنة ثقيلاً جداً، لا من حيث الاعتقالات التعسفية، ولا من حيث الأحكام بالسجن، ولا من حيث التهميش الذي طال المدينة خلال ما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية بسنوات الرصاص. وقد اعترفت الدولة بهذه التجاوزات في التجربة المغربية الرائدة لهيئة الإنصاف والمصالحة التي كانت قد أوصت بجبر الضرر الجماعي لهذه المدينة الوطنية المناضلة.هذا دون الحديث عن الأدوار التاريخية التي لعبها أهل فكيك للدفاع عن الحدود التاريخية للمملكة، والتي حالت دون التوسع العثماني في السابق، ووقفت صخرة في وجه كل محاولات الإستعمار الفرنسي لإلحاقها على غرار الصحراء الشرقية بالجزائر الفرنسية.
هذه الحيثيات ضرورية لفهم تجذر ثقافة الاحتجاج التي هي نتيجة مباشرة لتجذر الوعي السياسي الوطني، وتجذر العمل الجمعوي الباني، في هذه المدينة المناضلة والوطنية. وهذا في تقديري أساسي لتفسير زخم المظاهرات وحجم التعبئة الشعبية ضدّ تفويت خدمة عمومية لمادة حيوية هي: الماء، إلى شركة مساهمة. مع ما يعنيه الماء من تراث حضاري وإرث سوسيولوجي بالنسبة لمدينة تعتبر أولا وقبل كل شيء واحة. وعلى منوال ما قاله هيرودوت عن أنّ مصر هبة النيل، يمكن أن أؤكد أنّ "فكيك هبة عيونها وفرشتها المائية".
لكن لماذا تحتج ساكنة مدينة فجيج ضد قرار تفويت قطاع الماء لمجموعة الشرق للتوزيع، علما أم كل الجماعات الترابية بالمغرب صوتت؟
في تقديري لمتواضع، ما أثار حفيظة المواطنين هو الانقلاب في موقف المجلس الجماعي لفكيك الذي سبق له أن رفض بالإجماع خلال دورة عقدت يوم 26 أكتوبر 2023 الانضمام إلى مجموعة "الشرق للتوزيع"، والذي بموجبه سيتم تفويض اختصاصات تدبير توزيع الماء والكهرباء والتطهير السائل إلى شركة جهوية. صحيح أنه في المرحلة الحالية هي مملوكة للدولة بنسبة 10% وباقي الأسهم موزعة بين مؤسسات عمومية، ولكن لا شيء يضمن عدم تفويتها إلى القطاع الخاص مستقبلاً، خاصة وأن القانون 21ـ83 الذي أحدثت بموجبه يشير بوضوح إلى أنّ هذه الشركة تخضع لقانون 17.95 المتعلق بالشركات المساهمة. وأنا هنا أتحدث عن الضمانات القانونية وليس عن الضمانات الشفهية التي تبقى وعوداً. وكما تقول القاعدة، فالوعود لا تلزم إلاّ من يصدقها.
وهذا التغيير المفاجئ في الموقف وخلال أيام معدودات، من الرفض بالإجماع إلى القبول بأغلبية 9 أصوات مقابل 8 أصوات، أوكما يطلق عليهم المتظاهرون "تسعة رهط"، ما فسح المجال أمام كلّ التخمينات والتأويلات التي ذهبت إلى حد اتهام السلطات المحلية والإقليمية بالتدخل، للضغط على الرئيس وعموما على "مجموعة التسعة" لتمرير هذا القرار.
وقد ساهم غياب التواصل، في تزايد الشكوك لدى المواطنين؛ وحين قرر رئيس الجماعة مع نائبه الثاني الخروج للإعلام، لم يبدد التخوفات، بل ساهم نائبه الثاني في التصعيد من خلال اتهام المجالس السابقة باستغلال الماء لأغراض انتخابية، علماً أنّ الرئيس الحالي كان عضواً في تلك المجالس، وهو ما يجعله شريكاً في تلك التهم إذا صحّت.
كما أنّ إصرار الرئيس ومن معه على تجاهل مطالب المواطنين الذين انتخبوه، وإصراره على رفض عقد دورة استثنائية لإلغاء المقرر الذي فجّر الأزمة، يجعله في تناقض تام مع كونه ممثلاً للساكنة، ويجعله ومن معه في مواجهة مع الساكنة، التي من المفروض حسب القانون التنظيمي للجماعة أنه يمثلها في جميع أعمال الحياة المدنية والإدارية والقضائية، بمعنى أنه يمثل مصالح الساكنة ويدافع عنها ولا يتعارض معها، ومعارضة الرئيس لأغلبية الساكنة التي خرجت في مظاهرات حاشدة يهدم مبادئ الديمقراطية التمثيلية والتشاركية هدماً وينسفها نسفاً.
وكيف تفسر خروج ساكنة فجيج عن القاعدة بدعوتها الجهات المسؤولة إلى الدفع في اتجاه إعفاء واحة فجيج من قرار تفويت قطاع الماء على غرار مدن الواحات الأخرى بالمملكة؟
أولاً: فكيك لم تخرج عن القاعدة لأنّ القانون المحدث للشركة نفسه تحدث عن التدرج في تطبيق أحكامه "في الجهات"، وترك الأمر مفتوحاً ومنفتحاً على الخصوصيات الجهوية. ويمكن تأويل هذه المادة على أساس أن التدرج في التنزيل، يعني الشّروع بمجموعة من الجماعات وليس كل الجماعات داخل الجهة.ثمّ إن تنزيل هذا القانون لا يشمل حالياً باقي الواحات كما تفضلت .
ثانياً: نصُّ هذا القانون لم يكن ليتناقض مع أبجديات المبادئ الديمقراطية التي نصّص عليها الدستور المغربي ضمن ثوابت المملكة، لذلك ترك المُشرع الحرية للمجالس الجماعية في أن تصوت بالقبول أو الرفض للانضمام إلى "مجموعة الجماعات" التي ستشرف على المجلس الإداري للشركة.ونحن نعلم ايضاً أن تدبير الماء إلى جانب خدمات ومرافق أخرى تدخل ضمن الاختصاصات الذاتية للجماعة.
ثالثاً: هذا التفويت، إن تمّ سيضرب في مقتل مفهوم "الخدمة العمومية والإجتماعية" التي يؤديها مجلس الجماعة، وهي أيضاً من أوجب واجبات الدولة عموماً في العقد الإجتماعي، ذلك بأنّ منطق الشركة مختلف تماماً عن "الخدمة العمومية" أو الإجتماعية، فهو ربحي بالأساس مما قد يدفعها إلى الرفع من الأتاوات والرسوم والتعريفات،
ويؤدي إلى إرهاق أكبر لجيوب المواطنين في منطقة تعاني أصلاً من حصار الحدود وتعاني من اقتطاع 90% من أراضيها لصالح الجارة الشرقية،بموجب اتفاقية 1972 دون أن يتم تعويض الساكنة المتضررة، وانضافت إلى تلك الإقتطاعات أراضي واحة العرجة سنة 2021، وتمّ تقزيم مجال فكيك الحيوي بفعل التقسيم الإداري مما أثّر سلباً على مداخيلها.
كلّ ذلك جعل فكيك منطقة منكوبة، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهي تعاني أقصى درجات الهشاشة الإقتصادية والإجتماعية في المغرب، وتصنفها تقارير المندوبية السامية للتخطيط ضمن المناطق الحمراء على الخارطة الوطنية للهشاشة. وعوض مراعاة هذه الوضعية الهشة، سنرهق ميزانية الجماعة أكثر فأكثر لأنّ القانون 83.21 يُحمّل الجماعة والشركة على قدم المساواة مسؤولية التوازن المالي لعقد التدبير، بمعنى آخر أن الجماعة مُلزَمة بالدعم المالي للشركة في حالة وجود عجز مالي مستقبلاً. هذه إذن وبعجالة، هي بعض التخوفات والملاحظات على القانون المشار إليه، وإلاّ فهناك الكثير مما يمكن أن يقال في هذا الموضوع، وأهم شيء أنه في دولة الحق والقانون لا يمكن إقصاء المواطنين من المشاركة في القرارات المصيرية التي ترهن مستقبلهم، وغير مقبول في دولة الحق والقانون أن يخرج الآلاف من المواطنين قرابة 80 يوماً دون أن يفتح معهم رئيس المجلس ولا السلطات الإقليمية باب الحوار. هذا يتعارض مع توجيهات صاحب الجلالة في كل خطبه التي جعلت من المواطن مركز كل السياسات العمومية. وأختم بمقتطف من إحدى خطابات جلالة الملك حيث يقول: "إن خدمة المواطنين وضمان حقوقهم المشروعة، وكما أكدنا على ذلك خلال مناسبات عديدة، يجسدان الغاية المثلى للهياكل والبنيات الإدارية، بمختلف تصانيفها وأنظمتها القانونية والتدبيرية. فالجماعات الترابية والمصالح اللاممركزة والمؤسسات العمومية، مدعوة إلى تعبئة جميع مواردها البشرية والمالية واللوجستيكية، لتوفير خدمات عمومية تستجيب لشروط النجاعة والإنصاف في تغطية التراب الوطني."