النقيب الجامعي: القضَاة ومُؤسساتِهم في زمَن التواصُل، نحو مُستقبل مُنفتح، مُتحرر ومَسؤول 

النقيب الجامعي: القضَاة ومُؤسساتِهم في زمَن التواصُل، نحو مُستقبل مُنفتح، مُتحرر ومَسؤول  النقيب الجامعي يتوسط الجباري (رئيس نادي قضاة المغرب، يمينا) إلى جانب النويضي
"نحو تحرير الذات والكفاءات من عنف الولاءات وضيق المفاهيم التي سادت وانتهت".. هذا ما فهمته لما كشف نادي القضاة بأسلوب راقي ومسؤول عن منهجيته في التواصل مع ممثلي القضاة ومؤسساتهم وعلى رأسها المجلس الأعلى للسلطة القضائية، واختار من اجل ذلك مبدأ المرافعات وتقديم الملاحظات والاقتراحات والمذكرات المدعمة بالمراجع الدستورية والنصوص القانونية، وهذه لعمري ثقافة وممارسة فضلى تروم بناء الذات القضائية على أسس المساهمة المسؤولة البعيدة عن أي عشوائية أو غرور، خصوصا في زمن التكنولوجيا التي تقربنا بسرعة نحو الإنسان والآخر والمعرفة والمعلومة. 
بالطبع، يبقى لنادي القضاء وحده شرح توجهه في موضوع النشر، وما يهم المتتبع مثلي وغيري، أن مقاربة القضاة من خلال نادي القضاة، دليل ثقافة وفهم رزين لاستقلال القضاء، ووعي جديد بواقع وحال الوضع المهني المعقد لنساء ورجال القضاء، باعتبارهم  المجسدين للسلطة القضائية التي تصنع أسس العدالة وتصون الحقوق والمراكز القانونية بالمحاكم، وتحاول بالتالي وبشكل مباشر ويومي في ضمان مقومات دولة القانون، وهي مقاربة بمثابة تعاقد متين قد يخرج علاقات المجلس الأعلى بمكوناته القضائية لفضاء رحب يتسع للجميع ويستمع فيه للجميع.  
إن اهتمام نادي القضاة بأحوال المحاكم وبسيرها وبعمل وقرارات المجلس الأعلى من جهة أخرى، مؤشر قوي يكرس رؤية جيل من القضاة من بناة مستقبل القضاء، ويجسد واقعا حقيقيا  للمحيط الذي يشتغل فيه القاضيات والقضاة يوميا، وينبه للصعوبات التي تعترضهم وتقلق راحتهم نفسيا ومعنويا وربما تؤثر على صبرهم، وهم أمام كل هذا يواكبون بإصرار  تدبير المهام القضائية، بل يجتهدون قدر الإمكان وفَوق الإمكان  ليستجيبوا لما تفرضه عليهم واجباتهم الدستورية. 
وبالطبع مذكرات نادي القضاة الموجهة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والتي قرر نشرها تعتبر مشهدا من مسار قضاة ليسوا أجانب عن الجسم القضائي، ونعتبر كذلك تَوجها شفافا يجب أن يعمم ويشجع ويثمن بين القضاة ومسؤولي المحاكم ومسؤولي المجلس الأعلى، ولا يمكن الاعتراض عليه، فهو الأداة التي من خلالها سيشعر المجلس الأعلى للسلطة القضائية، أنه معزز بطاقة كبيرة من شباب القضاة النشطين القادرين على الإسهام ميدانيا في بناء صرح العدالة بعيدا عن كل حلقية أو حسابات، وسيشعر بأن الجسم القضائي ليس كله منحرف أو فاسد، وبأن الشرفاء ممن ينهضون بمهامهم بكل معاني الأخلاق حتى تقوم الثقة وتعلو بالقضاء للمراتب العليا التي هي له وهو أهل لها، مما يتطلب من المجلس الأعلى الإصغاء والاستماع إليهم كمعنيين مباشرين لهم الإمكانيات في القرارات المصيرية كشركاء، فلما تلتحم مكونات المؤسسة القضائية دون إقصاء لأي طرف سيعُم الاطمئنان المهني بكل تأكيد.
قد يبدو للبعض ممن له رغبة في التحكم في أنفاس القضاة وفي  حرياتهم المسؤولة، أو ممن لهم ميل لاتباع نهج الرئيس التونسي اتجاه القضاة ببلده، وممن يتهمون نادي القضاء بأنه جمعية منتفضة عن القيم أو أنها معارضة وخارج الصف، أو يقول بأن نشر مذكراته وطرح مواقفه على الملأ ضرب من الغلو ومن تجاوز الخطوط الحمراء، ولكن قَولا مثل هذا يجسد منطقا خطيرا  له انعكاسات حاضرا ومستقبلا سلبية جدا، لأنه أسلوب يقتل روح المبادرة للفاعل القضائي ويرسخ علاقات الخوف بين القاضي والمسؤول قد تَعصف باستقلاله وحياده، ولكنني أعتقد أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية لن يقبَل بهذا المنحى في علاقاته بالقضاة عامة وبالنادي خاصة، ولن يرضاه لفئات واسعة من شباب القضاة ومن شيوخهم، لأن المجلس الأعلى يعرف بأن الثقة في القضاة بُعْد إنساني ومهني حاسم، يحقق بالتأكيد تنزيل مدونة الأخلاقيات وتفعيل المخطط الاستراتيجي وترسيخ قيم الدستور ومنها الاستقلال والتجرد، وأن محاصرتهم في قفص القيود ومن الاحترازات ومن التعليمات أكثر مما هو ضروري وموضوعي، قد ينقلب إلى خَوفهم وتَخوفهم من إصدار أحكام جريئة أو منصفة، أو سكوت عن الجهر بالحقيقة القضائية النابعة من عمق الضمير ومن صدق القناعات..
ومن هنا، فإن إِخبار الرأي العام بمذكرات نادي القضاة وطرحها على المسؤولين بالسلطة القضائية، وبغض النظر عن مضمونها ومحاورها، فإنها أسلوب غير مسبوق في مجال علاقات القضاة بمؤسساتهم، ولم يعرف الرأي العام المغربي من قبل هذه المقاربة، وهي مرحلة جديدة تعني الحزم في تحمل المسؤولية، فلابد من توسيعها ومن دعمها، لأنها تعتبر في البداية والنهاية إشراكا للمواطن والمواطنة في متابعة رأي وعمل قضاة المغرب والاهتمام أكثر بعدالة بلدهم، وهي محطة ديمقراطية تعمق أواصر التعاون بين المؤسسات القضائية والجسم المهني كله وتعطي قوة للقضاء بالمغرب أمام التحديات التي تؤثر عليه وأمام من يتربص بهويته وقدراته وسلطاته.
أعتقد بأنه بقدر احترامنا واطمئناننا  لانتشار الوعي القضائي المسؤول بين جيل جديد من قضاة المغرب، المؤطر بقيم الدستور ومدونة حقوق الإنسان وقواعدها كما هي متعارف عليها كونيا، ستزيد مساحة  احترامنا واطمئناننا لأحكامهم العادلة والحازمة، فإن ضعف القضاة أو تم إِضعافهم، ضَعُفت أحكامهم وانهارت العدالة إلى الأبد، إذ أن تحديث الإدارة القضائية دون تحديث الأفكار وتحديث العلاقات بين كل الفاعلين في مجال العدالة، لن يكون إلا تقهقرا للقضاء وخسارة  للمغرب أمام رهان إصلاح كل المؤسسات.
لنعزز مهام القضاة ولندعم حصانتهم واستقلالهم بثقتنا فيهم وفي مبادراتهم وفي إبداعهم وفي إطاراتهم المدنية الخلاقة، فالثقة فيهم تشجيع لهم على التشبث بأخلاق وظيفتهم ومقاومتهم  للفساد هم بأنفسهم، وهذا في ما يدخل في صلب الخطة الاستراتيجية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية. 
ورحم الله القاضي ورئيس محكمة النقض سابقا بفرنسا سابقا Pierre Truche الذي قال: 
  Être magistrat, c’est exercer un métier qui nous dépasse et nous invite en permanence au dépassement de nous même