العديد من المنتخبين يتابعون قضائيا بسبب مخالفة والخروج عن القانون، هذا يدعو إلى التساؤل حول من يتحمل المسؤولية؟ الأحزاب أم المواطن؟
أعتقد ان هذا السؤال مهم، بالنظر إلى المتابعات التي تطال اليوم بعض القيادات الحزبية بتهم الفساد، فهناك من يعتبر هذه الجرائم لا تخص إلا المتهمين المتابعين فيها، ولا علاقة للأحزاب بها، لكن، ومن وجهة نظر شخصية وسياسية، لا انظر إلى الموضوع من هذه الزاوية، بل أعتبر أن هذه المتابعات هي تحصيل حاصل ونتيجة مباشرة لظاهرة إقدام بعض الأحزاب على فتح أبوابها لمن يدفع أكثر، وليس لمن هدفه الدفاع عن المصلحة العامة ويعشق النضال وتمثيل إرادة المواطنين، فما نراه اليوم هو حصاد لما تم زرعه بالأمس، وبالتالي لا يمكن الإدعاء بأن المتابعات تهم أصحابها فقط، وأرى أن مسؤولية الأحزاب ثابتة والسؤال حول هذا الموضوع لابد من طرحه، على اعتبار أن الأمر يتعلق بأحزاب من المفروض أن لها مبادئ ومرجعيات وأهداف، واعتبار أمام المواطنين.. وبالتالي فالاحزاب مسؤولة عن التصرفات غير القانونية التي تصدر ممن منحتهم ثقتها ونصبتهم في المراتب المتقدمة من المسؤولية.
إن مسؤوليتها ثابتة بغض النظر هل كانت على علم بهذه التصرفات أم لا؟ لأن المبدأ يقتضي، حسب علمي المتواضع، أن الأحزاب مطالبة أخلاقيا بعدم منح المراتب المتقدمة في مؤسساتها، إلا لمن تدرجوا عبر جميع هياكلها، وتربوا وناضلوا وضحوا من أجل الحزب حتى تلبسوا به وتشربوا مرجعياته وصار جزءا من ذواتهم وأثبتوا إخلاصهم له وكفاءتهم الفكرية والعملية فيه، بل أكاد أقول من الذين أصبحوا يدافعون عن سمعة الحزب الذين ينتمون إليه تماما مثلما يدافعون عن سمعتهم، هذا هو المبدأ. لذلك فقلما تجد مناضلين من هذا النوع ملاحقين بمثل هذه التهم، إذن فمسؤولية الحزب هنا قائمة، مادام من النوع الذي يفتح ذراعه لكل شاردة، وقد رأينا كيف أسقط عدد من هؤلاء على هذه الطينة من الأحزاب ومنحتهم التزكية لتمثيلها في الإنتخابات، بل منهم من صعد إلى أعلى مراتب المسؤولية دون أن يكون ابنا شرعيا لها ولا هو جدير بتمثيلها حقا.. وبالتالي فلا يمكنها حاليا أن تتنصل من مسؤوليتها المعنوية والأدبية إزاء هذه المتابعات، واملي أن تكون الأحداث الأخيرة عبرة لكل الأحزاب كي تعيد النظر في آليات اشتغالها وفي كيفية تصريف التزاماتها السياسية والمجتمعية إزاء الوطن والمواطنين وألا يكون هدفها فقط هو الحصول على المقاعد، بل الهدف الحقيقي هو الوصول إلى قلوب الجماهير، إذ لا يمكن في العمل السياسي النبيل، الإتكاء على منطق الغاية تبرر الوسيلة، سيما أن التاريخ يسجل العديد من الحالات التي كان فيها حبل الكذب على الناس قصير جدا، ولعل من نتائج هذه الظاهرة التي استفحلت مع كامل الأسف، هو العزوف عن الفعل السياسي بشكل عام وعلى المشاركة في الإنتخابات بشكل خاص، لذلك فما نعيشه اليوم هو تحصيل حاصل ومخرجات طبيعية لعمل حزبي غير سوي.
نعم، أنا أؤمن بجدوى الأحزاب ولا أتصور وجود ديمقراطية حقيقية بدونها، لكن السؤال هو: أي من الأحزاب التي يمكن المراهنة عليها؟ هل الأحزاب التي تتنافس لخدمة الشعب أم التي تتسابق للاستحواذ على المقاعد، أعتقد أن الاختيار بين واحد من هذين الجوابين، هو الذي يحدد مدى المسافة التي ستفصلنا عن السياسة بمفهومها الحقيقي: السياسة الراعية وليست السياسة الإسترزاقية.
طبعا، لا أنفي مسؤولية المواطن إذا لم يستحضر مسؤولية التصويت وهو في صندوق الإقتراع، إذ هو من سيتحمل نتيجة اختياره في آخر المطاف، لكن مع ذلك، لدي بعض التحفظ، فأنا أحمل المواطن هذه المسؤولية، إذا كنا نعيش في مجتمع مستوعب لأهمية العمل السياسي ومدرك لقدسية الإنتخاب ولجسامة مسؤولية التمثيل كما هو معروف في الديمقراطيات الراقية، حيث تناهز نسبة المشاركة في الإنتخابات الثمانين بل التسعين في المائة، هنا تكون لمسؤولية المواطن منطق يحكمها، لكن في المقابل، إذا كانت نسبة المشاركة في مجتمعات أخرى لا تصل إلى نصف عدد الذين يحق عليهم التصويت إلا بمشقة الأنفس وبطرق يختلط فيها القانوني بغير القانوني، هنا يصبح طرح سؤال مسؤولية المواطن غير ذي معنى، لأن المواطن في الأصل غائب أو مقاطع أو مخاصم للعمل السياسي، فإن كان غائبا عن قناعة، فذاك موقف يحمل رسالة، وهو إيجابي على أي حال، لكن ليس هناك إلا نسبة قليلة جدا هي من تمثل هذا الموقف.
أما الفئة الثانية فمقاطعة ولكنها لا تدري حتى لماذا هي مقاطعة ؟فالسياسة في ذهنها قضية غائبة تماما عن اهتمامها؛ وتلك هي الطامة، وحتى الأحزاب لا يهمها كثيرا الوقوف عند هذه المشكلة، على اعتبار أنها تراهن فقط على الكتلة التي تشارك في الإنتخابات وتضمن بها وجودها وبقاءها، لذلك هي تجد ضالتها في هذه الكتلة بل وتراهن عليها، لأنها الكتلة المستعدة لبيع مواقفها، عن وعي أو عن غير وعي لأسباب يطول شرحها، ولكنها في الغالب أسباب مرتبطة بمشاكل الجهل والفقر.
أما بخصوص الفئة الثالثة فهي من المنتمين حزبيا وبالتالي فمشاركتها مرتبطة بهذا الالتزام بغض النظر عن مراميه وأهدافه، وأخيرا هناك الفئة القليلة التي مازال الأمل يحذوها في التغيير، وبالتالي فوفاء لقناعتها بواجب المشاركة، تشارك ولو كانت انتظاراتها من العملية السياسية ضئيلة أو غير ذات أهمية بالنسبة إليها.
يمكنني القول إذن، إن هذه المواقف المتناقضة هي حصيلة تنشئة سياسية ضعيفة وغير قادرة على صناعة ثقافة سياسية متطورة يمكنها أن تدخلنا إلى عهد التنمية السياسية المتطورة حيث الجميع يكون مقتنعا بأهمية الفعل السياسي وراهنيته بغض النظر عن الموقع الذي يتجسد فيه هذا الفعل.
2. كخلاصة يمكنني القول، إن هذه المواقف المتناقضة هي حصيلة تنشئة سياسية ضعيفة وغير قادرة على صناعة ثقافة سياسية متطورة يمكنها أن تدخلنا إلى عهد التنمية السياسية المتطورة حيث الجميع يكون مقتنعا بأهمية الفعل السياسي وراهنيته بغض النظر عن الموقع الذي يتجسد فيه هذا الفعل.
وكخلاصة، يمكنني القول إجمالا، إن المسؤولية اتجاه هذا الوضع، مشتركة بين الحزب والمواطن، وإن كنت أعتقد أن الجزء الأكبر منها تتحملها الأحزاب، وفق ما سبق توضيحه، دون أن أنفي مسؤولية الدولة أيضا، فالديموقراطية ليس تطبيقا لنصوص القانون فقط وتجميع لعدد من الأشخاص للحصول على تصريح بتأسيس حزب، بل الديموقراطية هي أيضا مرجعية فكرية ومشروع وطني والتزام أخلاقي، من هذا المنطلق، اعتقد ان تفريخ الأحزاب أساء للديموقراطية ولوث العمل السياسي مع الأسف، فإذا كانت الأحزاب مطالبة اليوم بتأهيل آليات اشتغالها وتطهير صفوفها من "المظليين" والانتهازيين والشعبويين، فإن الدولة هي الأخرى، مطالبة بالارتقاء بأدوات التنشئة الحقيقية وعلى رأسها المدرسة والثانوية والجامعة، دون أن ننفي مسؤولية الإعلام كذلك وتلك قضية أخرى.