يدبر الفاسدون والمفسدون احتكاراتهم للسلطة بطريقة تجعلهم، في الكثير من الأحيان، يجندون عملاء شخصيين، بمن في ذلك أقاربهم، وبعض رجال الأعمال والنخب المحلية الذين يبحثون عن الإثراء السريع وغير المكلف ماديا. وغالبا ما يكون هذا النوع من الفساد، مفتقرا إلى بيئة حقيقية للمساءلة، وخاضعا لنظام قوي من العلاقات المتشابكة التي تتيح للفاسدين بناء احتكارات على مستوى المال والسلطة، دون الحاجة إلى تقاسم المكاسب، أو على الأقل الإعلان عن مصدرها.
هذا هو حال أغلب المسؤولين الذين يتابعون، الآن، في ملفات فساد ثقيلة، إذ لا أحد كان يعرف مصدر ثروتهم، ولا السر وراء النفوذ الذي تراكم لديهم، حتى تحولوا إلى آمرين ناهين، ولا أحد يجرؤ على زحزحتهم من مكانهم، أو منافستهم على المناصب أو الاستثمارات التي حازوها على نحو فوضوي أو مفاجئ، أو المسؤوليات التي أسندت إليهم داخل التنظيمات التي أصبحوا يتحكمون في مفاصلها، سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو رياضية. والغريب في الأمر أن هؤلاء "المسؤولين الفاسدين" لم يتدرجوا في الأجهزة التنظيمية لأحزابهم أو نواديهم الرياضية، كما أن «رأسمال» المستثتمرين منهم مجهول المصدر، إن لم يكن مصدرا مريبا أو مشبوها أو سيء السمعة، إذ لا يمكن لأي «استثمار» نزيه أن يحولك، في طرفة عين، من بائع تمور أو جامع متلاشيات أو تاجر سيارات مستعملة أو «شناق» إلى مالك قصور يتصرف في عشرات المليارات، وفي عقارات لا يحوزها إلا أباطرة المخدرات أو سادة الكارتيلات في أمريكا اللاتينية.
وإذا أكدت الوقائع الجارية الآن في المغرب، مع ملف سعيد الناصيري ومن معه، وقبل ذلك مع ملف الوزير محمد مبديع، ثم ملف الوزير محمد الغراس، وملف البرلماني عبد العزيز الوادكي، وملف ياسين الراضي «رئيس جماعة».. إلخ، أن الفساد واسع النطاق ومنفلت من أي عقال، خاصة أن هؤلاء لا يمارسون «العمل السري» بل يسيرون بين الناس، ويدبرون الشأن العام، كل من موقعه «وزير، رئيس جماعة، برلماني، رئيس جهة، رئيس عمالة، رئيس مؤسسة عمومية، رئيس نادي رياضي.. إلخ»، فإن التشوهات لا تقتصر فقط على الشأن الداخلي، بل تتجاوز ذلك إلى خارج الحدود، حيث يصبح الفساد، إذا لم تتمأسس محاربته، تربويا أمنيا وإداريا وقانونيا وقضائيا، «علامة تجارية» دالة على ضعف مؤسسات الدولة، وأن شبكات الفساد هي المسؤولة عن استقبال جميع المبادرات الاستثمارية، مما يؤدي بالفعل، حتى مع وجود مؤشرات النمو الإيجابية، إلى قيام منظومة فاسدة لا يمكن لأي دولة إلا الانحناء أمامها إلى أن تفقد قوتها تدريجيا.
لقد استقبل المواطنون الأبحاث التي باشرتها الشرطة القضائية، والتحقيقات التي يقوم بها القضاء، بوصفها إرادة قوية من القرار السياسي المركزي لإحراق أسواق نفوذ الفاسدين، وردا لاعتبار مؤسسات الدولة، بل بوصفها انتصارا لتخليق الحياة العامة، ذلك أن هؤلاء المواطنين يحتاجون إلى انتصار حاسم للقانون، بدل البقاء رهائن للتحالفات المتماسكة للفساد. كنا ينتظرون أن يقوم القضاء بدوره في تشكيل واقيات وحواجز ضد المفسدين، خاصة أن الفساد بلغ، حسب ما صرح به محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، مستويات غير مقبولة، والجميع يُقر بأنه يشكل خطورة حقيقية على البرامج والسياسات العمومية الموجهة إلى التنمية، كما أن كلفته باهظة وتستنزف ما يقارب 5% من الناتج الداخلي الخام، منها 50 مليار درهم سنويا فقط في الصفقات العمومية".
إن التحديات التي تواجه المغرب على مستوى تخليق المؤسسات العامة وتطهيرها من الفاسدين، في ظل أجندة سياسية وجيوسياسية تتميز، إقليميا ودوليا، بالتعقيد وارتفاع سقف الرهانات والتطلعات، تفرض عليه الاحتكام، في الحكامة والتدبير، إلى الضوابط القانونية. ذلك أن النشاطات الفاسدة للنخبة إذا اتسع نطاقها تعني، أولا، أن الحوافز الفاسدة هي التي تتحكم في مختلف العلاقات؛ ثانيا، أن قرار الدولة غير مستقل ويقع التلاعب به وعليه؛ ثالثا، أن أجهزة تطبيق القانون تشتغل لحساب الفساد؛ رابعا، أن الصراع على مناطق النفوذ بين الفاسدين منفتح على كل الاحتمالات، بما فيها الجريمة والعنف؛ خامسا، أن القوانين ومؤسسات الوساطة الاجتماعية، بما فيها الأحزاب والنقابات والجمعيات، تتطابق حرفيا مع الفساد، بل مصممة لخدمته وتكريسه وتقويته وتمنينه.
النقطة الخامسة تجرنا إلى مسألة جوهرية لا يمكن القفز عليها، إذ أن أغلب المتورطين في ملفات الفساد هم أعضاء قياديون في أحزابهم، جهويا أو مركزيا، وهو ما يعني أن الفساد تحول إلى قوة سياسية تتبارى في الانتخابات، وتتنافس من أجل الوصول إلى مناصب حكومية مفصلية، أو على الأقل إلى مناصب محلية تتصل بالماكينة السياسية الوطنية، مثلما هو الحال مع سعيد الناصيري «رئيس مجلس عمالة الدار البيضاء» أو عبد النبي بعيوي «رئيس جهة الشرق». ويبقى السؤال هو: هل سيساعدنا التدقيق في مسار الترقي في المسؤوليات على فهم أصول هذا الفساد؟ هل الفاسدون مناضلون سابقون تعرضوا لـ «الانحراف»، أم أن نفوذهم المالي هو الذي سمح لهم بالتغلغل داخل الأحزاب؟ كيف يمكن الحديث عن تخليق الحياة السياسية في ظل أحزاب يتحكم في معظمها الفاسدون والمرتشون وأباطرة المخدرات؟ هل يمكن إفراز نخبة سياسية وطنية نزيهة مع وجود أحزاب تجذَّر فيها نفوذ الفاسدين؟
لا شك أن الفساد يحدث أثارا ضارة على التنمية الاقتصادية والديمقراطية، بل على القضايا الحيوية للبلاد، ولذلك، فإن نقطة التحول هو تكريس مكافحة لا رجعة فيها للفاسدين، ليس فقط على مستوى المؤسسات العمومية أو المنتخبة، بل على مستوى الأحزاب التي «تقترح» مثل هؤلاء، وتفرضهم فرضا على المواطنين، بقوة المال الحرام، وبقوة شراء «التزكيات»، وبقوة فساد الزعامات الحزبية التي لم تعد تبحث عن الكفاءة السياسية أو تحتكم في الاختيار بين المرشحين للتنافس في الانتخابات الجماعية والتشريعية إلى المسار الطبيعي للترقي في المسؤوليات، وإنما تبحث عن أصحاب المال، دون أن تهتم بمصدره، أو بالسجل العدلي لصاحبه. كما تبحث عن الولاءات الشخصية دون الاهتمام بدرجة الكفاءة «العلمية» أو التحصين الأخلاقي للمرشحين، وعن الأقطاب الصاعدة «الطاشرونات والمغامرين والباحثين عن الامتيازات وطالبي الحصانة.. إلخ». ذلك أن ما أصبح يهم هذه الزعامات هو حصد أكبر عدد من المقاعد، ولو على حساب مبادئ الحزب ومرتكزاته المذهبية والسياسية، للفوز بنصيب من الكعكة الحكومية أو على الأقل ما يسمح لها بالتفاوض
حول بعض المناصب محليا وإقليميا وجهويا، بل حتى على المستوى الحكومي.
إن الفساد، تبعا لكل ذلك، جريمة منظمة، وهي تجاهد بكل الإمكانات المتاحة من أجل ضمان استمرارها، ولا يتحقق هذا الاستمرار إلى بالتغلغل المخطط له سلفا في مناطق النفوذ، وتوزيع الأدوار بين أقطابه على مستويات عدة، مما يفرض عليها إقامة نظام للحماية، أي التحكم في الماكينة الحكومية ونسج العلاقات مع المسؤولين الحكوميين والتقرب منهم، وأحيانا بتوريطهم في ملفات مالية أو أخلاقية وابتزازهم وتحييد قوتهم وتجنب مضايقاتهم. وهنا يأتي دور استقلال القضاء؛ فالحل، أولا، هو تحصين هذا الاستقلال، ومنع سقوطه في أي شكل من أشكال التبادل مع الجهاز التشريعي أو التنفيذي. فضلا عن إنهاء فرض احتكار الإعلام، وتقويته وتحصينه وتحريره، والدفع به بكل وضوح ليلعب الدور المنوط به في الكشف عن الفساد بكل أنواعه، وأيضا تمكينه من الحصول على المعلومة التي قد تحقق الفارق في تخليق الحياة العامة.
قد تكون المتابعات الحالية محاولة لاستعادة السيطرة على الوضع، كما قد تكون توجها أعمق لمحاربة الفساد والحد من تدخل المال الوسخ في السياسة والرياضة والأعمال، لكن الأكيد أن المغاربة لا ينتظرون أن يكون إسقاط الرؤوس الكبيرة مجرد حملة عابرة أملتها ضرورة الجهاد الموسمي ضد الفساد، بل يريدون، أولا وأخيرا، تجفيف أسواق الفساد من المفسدين وأتباعهم وأموالهم ومخدراتهم وأوساخهم..