من منا لم يقرأ في يوم من الأيام صفحات من مقدمة العلامة ابن خلدون أو على الأقل سمع بإحدى أقواله وحكمه المؤثرة في مختلف مناحي الحياة والمجتمع مثل: الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها، وإذا تعاطى الحاكم التجارة فسد الحكم وفسدت التجارة، عنـدمــا تـكثــر الجبــايـة تشرف الدولة على النهـايــة، والمغلوب مولع بمحاكاة الغالب، والعصبية نزعة طبيعية في البشر، والظلم مؤذن بخراب العمران، وفاز المتملقون. وسنكتفي هنا بالتطرق إلى قوله فاز المتملقون. فما هو التملق؟ وأين تكمن خطورته على المجتمع؟
جاء في «لسان العرب» لابن منظور: «الإمْلاق يعني الإفساد، والمَلِق الذي يَعِدكَ ويُخْلِفك»، كما قال عنه «القرطبي»: «ورجل مَلِق: يعطي بلسانه ما ليس في قلبه».
والتملق والنفاق وجهان لعملة واحدة، فكلاهما يشتركان في الكذب الذي يمثل الركيزة الأساسية لهما، فالمنافق كاذب حين يقول ما لا يعتقده حقيقة في أعماقه، نفس الأمر بالنسبة للمتملق فإنه يكذب حين يقول عن ممدوحه ما ليس فيه.
وأجمل وصف للمتملقين، هو ما ذكره الكاتب البريطاني برنارد شو Bernard Shaw، في مسرحية "الإنسان والسوبرمان"، حيث يقول، على لسان إحدى شخصيات المسرحية: "ليسوا أنيقين، ولكنهم يرتدون آخر ما وصلت إليه الموضة، وليسوا مثقفين، ولكنهم خريجو كليات من الناجحين وحسب، وهم ليسوا متدينين، ودائما يترددون على دور العبادة ليراهم الناس، ولا يمتازون بأية أخلاق، وإنما هم يسايرون التقاليد الشائعة، وليسوا من الذين يتمسكون بالفضيلة، وإنما هم جبناء …" .
والمتملقون، المداحون أو المطبلون «كل حسب ميوله» هم المنافقون والخطر الكبير الذي يواجه الساسة، وهم أسوأ بطانة يمكن أن يتخذها المسؤول أو حتى الحاكم، وهم من يدفعون وزراء وحكومات وحتى أنظمة إلى الهاوية.
هؤلاء المتملقون في اعتقادهم الساذج أنهم يحسنون بصورة الدولة صنعا، والحال أنهم يسيئون إليها أكثر من الأعداء أنفسهم. وفي ظل هذا الواقع المرير الذي يجثم عليه المتملقون، ويقع المجتمع ضحية لسلوكياتهم المرضية، إذ بسبب التملق تم الإجهاز على القيم والمبادئ، وساءت العلاقات الاجتماعية، وضاعت الكثير من حقوق الناس، وساد التهميش، وبعد كل ما قيل، فما نراه اليوم من انتشار التملق في واقعنا المعيش يدعو للقلق، فالمتملقون من حولنا يتكاثرون وهم في السياسة يتزايدون.
لذلك، لا بد من إيجاد حل جذري للمتملقين والمنافقين، خاصة في عالم المال والسياسة، وأولى خطوات الحل للتخلص من هذا الداء واقتلاعه من جذوره وتطهير المجتمع من جراثيمه، هي الرقي بوعي الناس تجاه هذه الآفة المنتشرة من حولنا، والتحذير من المتملقين وكشف صفاتهم المسيئة والفاسدة، فاذا لم يتم إبعادهم، وردعهم وحتى بترهم من جسم هذا الوطن يصبح المجال واسعا أمام هذه العناصر المتملقة الوصولية والانتهازية في طبيعتها أن تنتشر وتتمدد، لكي تنتهز الفرصة وتحصل على حقوق الآخرين بطرق ملتوية. إنهم كالفئران، يقفزون من مركب إلى مركب ومن منصب إلى آخر بفضل تمكنهم من فن التملق. وهذا ما دفع ابن خلدون للتحذير منهم قائلا: «فاز المتملقون».
في الخلاصة، من المفيد الإشارة إلى أن ضعف الأوطان وسبب تخلفها وأزمتها هم أبنائها المتملقون والانتهازيون.