أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الثلاثاء 19 دجنبر 2023 رأيه حول موضوع " النظم البيئية الغابوية بالمغرب: المخاطر والتحديات والفرص " تطرق من خلاله الى المجهودات المبذولة لإعادة تأهيل وإصلاح النظم البيئية الغابوية خلال العقود الثلاثة الماضية، وأبرزها المخطط الوطني لتهيئة الأحواض المائية سنة 1996 والاستراتيجية الوطنية للمراقبة والتتبع السنوي لصحة الغابات ( 2007 ) واستراتيجية غابات المغرب 2020 – 2030 التي تشمل أهدافها تشجير الغابات لاستعادة مساحة تصل إلى 133.000 هكتار وإحداث أكثر من 27.500 فرصة عمل مباشرة وخلق قيمة تجارية تقدر ب 5 مليارات درهم في السنة، وذلك بفضل التقدم المتوقع في قطاعي الإنتاج والسياحة في أفق 2030. " أنفاس بريس " ومن أجل تسليط الضوء على مضامين رأي المجلس استضافت الخبير، عبد الرحمان الحرادجي، أستاذ الجغرافيا بجامعة محمد الأول بوجدة، فكان معه الحوار التالي :
في ضوء رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي؛ كيف تنظر إلى واقع النظم البيئية في المغرب وما هي سبل تأهيلها، وإلى أي مدى تم تنزيل إستراتيجية غابات المغرب 2020 - 2030 وما هي أبرز الإكراهات المطروحة في هذا الإطار؟
في ضوء "رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في المنظومات البيئية الغابويّة" المطروح من خلال العرض الذي نشر في 19 دجنبر 2023، أرى بعض الثغرات التي قد تبدو بسيطة، غير أنها جوهرية لا بد من التفصيل فيها بما يوضح أكثر واقع النظم البيئية الغابويّة في بلادنا. فثمة مصطلحان أساسيان لم يظهرا في العرض وهما "الموروث" و "التصحر"، وإن كان مضمونهما واردا ضمنيا، لكن بشكل جزئي وربما ملتبس.
فيما يخص المصطلح الأول، لابد من استحضاره بقوة من أجل فهم واقع هذه المنظومات واستيعاب أسباب صعوبة إعادة التأهيل وتفسير فشل بعض الإجراءات التدبيرية والترميمية. فالغابات في بلادنا تنتشر حصريا في الزاوية الشمالية الغربية إن لم تكن في المرتفعات، لأسباب مناخية، حيث جل التراب الوطني يرزح تحت فضاءات مناخية غير ملائمة لنمو الأشجار بصورة طبيعية، وذلك بسبب درجات القحولة التي لا تسمح بذلك. بل حتى الغابات المتوفرة في المستويات البيومناخية شبه القاحلة (وليس شبه الجافة) وشبه الرطبة ينبغي النظر إليها على أساس أنها موروثة عن ظروف مناخية قديمة لم تعد قائمة حاليا، ما يعني أنها استطاعت أن تصمد أمام التغير المناخي الذي طرأ منذ بضعة آلاف من السنين (حوالي 5000 سنة)، وقوامه الإقحال التدريجي الذي وازاه تبريد طفيف. فهذا الصمود يفيد أن هذه الغابات لها قابلية للتأقلم، لكن في حدود ما يسمح ببقائها إن لم تتعرض للقطع. غير أن قطعها أدى إلى تدهورها وإلى اندثارها في كثير من الموائل العطوبة حيث يصعب تجددها وتعافيها واستخلافها لأنها أصبحت تحت مناخ أقل ملاءمة للمناخ الأصلي الذي أفرزها أول مرة. فالتعامل مع الغابات تحت رؤية لا تأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات يقود حتما إلى التدهور والاضطراب بشكل قد يكون لارجعيا. وهكذا فجل غاباتنا عبارة عن موروث طبيعي وجبت حمايته وصيانته بما يضمن بقاءه ويمنع تدهوره وإعطابه.
أما عن سبل إعادة التأهيل، فبادئ ذي بدء ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار خصائص الموروث المتكيف بصعوبة وضعيته، مع ضرورة الاعتماد ما أمكن على الأصناف المحلية الأصلية أو القريبة منها من حيث المستوى البيومناخي، وتحت حماية ووقاية، بمنع كل ما من شأنه أن يعيق النمو والاستفادة من مقومات التربة من مواد معدنية وعضوية ورطوبة مخزنة، وذلك بمحاربة التعرية واجتناب الرعي والحرث والاجتثاث طبعا، خلال عقود التجدد والتعافي من الاضطرابات الطارئة. وهذا لا يصادف النجاح في كل الأحوال. فقد تكون بعض الأصناف ذات حساسية عالية للاضطرابات، كما تصادف العملية ظروفا مناخية أقل ملاءمة ضمن التغايرية المناخية الطبيعية، مثل الجفاف الحاد المستفحل فيتعذر تعافيها بالشكل المأمول. وقد ينتج الفشل أيضا عن تدهور الأراضي بشكل متقدم، ولا سيما تراجع سمك التربة بسبب التعرية التي قد لا يشخصها سوى المتخصص الخبير.
بصفتكم خبيرا ومتخصصا في هذه القضايا، حيث لديكم إسهامات كثيرة وعطاء متميز في قضايا البيئة والتعرية والماء والتصحر والمخاطر الطبيعية والبيئية عموما، فإلى أي مدى تم تنزيل إستراتيجية غابات المغرب 2020-2030 وما هي أبرز الإكراهات المطروحة في هذا الإطار؟
بصفتي أستاذا باحثا، أجيبكم عن الشق الثاني من السؤال، لأترك الشق الأول لإدارة المياه والغابات التي تتوفر على آليات التتبع والتقويم بشكل شمولي ودقيق إلى حد ما لمجموع التراب الوطني، بينما الباحث الأكاديمي لديه معطيات واهتمامات أخرى مكملة وقد تكون تحليلية وتقويمية موجهة، أو منتقدة، ولم لا؟ فهذه الإدارة كانت تعمل سابقا تحت اسم "المندوبية السامية للمياه والغابات ومكافحة التصحر" قبل أن تغيره إلى "الوكالة الوطنية للمياه والغابات".
وهنا أتناول المصطلح الثاني الذي أشرت إليه وهو "التصحر"، والذي غاب عن عرض المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مثلما غاب عن التسمية الجديدة لإدارة المياه والغابات. ومهما يكن من أمر هذا الغياب أو التغييب، فالتصحر في نظري هو أخطر تحد تواجهه المنظومات البيئية عموما والغابويّة منها في المناطق القاحلة وشبه القاحلة وشبه الرطبة الجافة عجز مائي ولو فصلي، أما أسبابه فمتعددة، أشارت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر من بينها بالخصوص في التعريف، إلى التقلبات المناخية (وليس التغيرات كما يشاع أحيانا في ترجمة غير دقيقة، بل غير صحيحة) والأنشطة البشرية.
هناك غموض في هذه المفاهيم لدى الكثير من الناس، إذ هناك من يتحدث عن التغيرات المناخية وهناك من يتحدث عن التقلبات المناخية، وبغض النظر عن هذا، فهل تقصد أن التغيرات المناخية ليست من الإكراهات بالنسبة لإعادة تأهيل الغابات وتنزيل الاستراتيجية التي نحن بصددها (2020-2030)، وهي واردة في رؤية المجلس؟
لا أقصد هذا، وإنما وددت شرح التعريف الأممي للتصحر، وهو تعريف متوافق عليه، بتضمنه أهم القواسم المشتركة بين مختلِف التعاريف التي يتجاوز عددها المئة. وهناك أيضا تصورات خاطئة لمفهوم التصحر يجب تصحيحها، وعلى رأسها اعتباره زحفا للصحراء، ولتبسيط الشرح يمكن القول إن التصحر هو تدهور للأراضي تظهر بموجبه مشاهد شبيهة بالصحراء، لكن في أراض غير صحراوية، أي ذات مناخ غير صحراوي. وهنا نفهم إذن أن التصحر لا يعني تحول الأراضي غير الصحراوية إلى صحارٍ، كما نفهم أن الصحراء صحراء بسبب مناخها، بمعنى أنها منتوج مناخي طبيعي، خلافا للتصحر الذي هو ليس منتوجا مناخيا طبيعيا، وإنما هو منتوج بشري، اجتماعي بامتياز، لدجة أن البعض يعتبره ببساطة ظاهرة اجتماعية.
وهذه الرؤية تتوافق جزئيا مع ما ذهب إليه المجلس في عرضه من خلال قوله: "من بين الإكراهات الكبرى: ضغوط قوية ناجمة عن الأنشطة البشرية والتغيرات المناخية". أتفق مع الشق الأول الذي يعزى فيه التصحر إلى "الأنشطة البشرية"، بينما لا أتفق مع الشق الثاني الذي يعزوه أيضا إلى "التغيرات المناخية"، ذلك أن التغير المناخي يُنتج الصحراء وليس التصحر. وحتى وإن اعتبرنا التغير تقلبات، فهي لا تؤدي لوحدها إلى التصحر وإنما باقترانها بالأنشطة البشرية ضرورة، ونقصد بها طبعا تلك الأنشطة المجحفة المجهدة وغير الملائمة للأوساط الهشة التي ليست لها القابلية للصمود والتعافي من الاضطرابات التي يحدثها فيها الإنسان.
وللتوضيح أكثر، فإن ما نعيشه من تغيرات أو تقلبات مناخية لا جديد فيه في الواقع، إذ لم يتجاوز عتبات التغايرية الطبيعية الاعتيادية. فموجات الجفاف أو الحرارة المترددة ليست جديدة ولا غير مسبوقة، لا من حيث حدتها ولا من حيث مدتها، حتى وإن كانت تبدو استثنائية وغير اعتيادية للجيل الواحد، وهذا أمر طبيعي. كما أن المقولة التي أصبحت شائعة ومتداولة بقوة لدى الخاص والعام، والتي مفادها أن "الجفاف أصبح ظاهرة بنيوية" مجانبة للصواب، لسبب بسيط وهو أن الجفاف كان دائما ظاهرة بنيوية ولا جديد فيها رغم التغير الظاهري والظرفي لوتيرة حدوثها أو حدتها، ولذا لا سبل للتنبؤ بها أو نمذجتها لأنها احتمالية وعشوائية (ولنا في القرآن الكريم سورة يوسف عبرة).
ومما يؤكد الدور الحاسم للإنسان في التصحر الذي هو إكراه قوي أمام تدبير المجالات الترابية الغابويّة منها وغيرها، هو أن الكثير من المجالات الخاضعة للظاهرة حديثة العهد بها، ما يعني أنها مرت عبر قرون، بل آلاف السنين، بالعديد من التقلبات (أو حتى التغيرات المناخية الطفيفة) بما فيها موجات الجفاف الحاد وموجات الحر، فلم تتصحر، في غياب أنشطة بشرية مخلة بالتوازنات البيئية للأراضي.
خلاصة القول هنا هو أن التصحر، والذي تقف وراءه الأنشطة البشرية أساسا، قد يطول جوار الصحراء، كما يطول أراض بمنأى عنه، حتى ولو كانت غابات شبه رطبة. فهو ظاهرة تدريجية قد تبدأ تدريجية مستترة لا يتم الانتباه إلى سيرورتها بشكل مبكر، فتكون قد قطعت أشواطًا يتعذر معها صمود الغابات وتعافيها ويصعب معها استخلاف مكوناتها المتأصلة وإعادة تشجيرها.
أما عن اعتبار "التغيرات المناخية" إكراهات تواجهها الغابات فهو أمر يبقى واردا طبعا، إذ إنها تفاقم ما يحدثه الإنسان من تدهور واضطراب في المجال الغابوي، لكن بشكل لا يختلف عما هو اعتيادي، باعتبار أخطر شيء فيها هو التطرف المناخي أو بالأحرى الطقسي الذي يجسده الجفاف، أو حتى الأمطار الوابلية التي تفاقم التعرية فوق السفوح المتدهورة. فالأحداث المتطرفة مألوفة ومترددة بتغيرات المناخ أو بدونها، ووتيرة ترددها تتجاوز السياق الزمني المعاصر، والذي يندرج فيه تعريفها، مع العلم أن أبعادها الاستشرافية ينبغي التعامل معها بحذر، بعيدا عن كل تهويل. ومن الجدير بالتذكير هنا هو أن التغيرات المناخية، التي هي في الواقع تقلبات، تُفقدنا الماء بشكل ظرفي ومؤقت، بينما التصحر يُفقدنا الأراضي بشكل مستمر ومستديم، علما بأن التربة هي الركيزة الضرورية ليس للغابات فحسب، وإنما لكل النباتات، طبيعية كانت أو زراعية.
ثمة نقطة أخرى لا بد من تثمينها، ألا وهي ضرورة إعادة النظر في اختيار بعض الأصناف الشجرية التي اعتمدت على نطاق واسع في إعادة التشجير، بل كذلك في التشجير، ولم تثبت جدارتها، وعلى رأسها الصنوبر الحلبي. فهذا الصنف لا يتلاءم مع الخصائص الموالية لكثير من المجالات التي شُجٌرت، والتي ما كان لها أن تُشجَّر أصلا، ومنها مجالات الظهرة في الهضاب العليا الشرقية حيث لم ولن تصادف العملية أي نجاح حقيقي خارج بطون الأودية وسهولها الفيضية حيث وفرة الماء نسبيا، أو التضاريس المرتفعة حيث البرودة والتساقطات الوفيرة، كما أن لهذا الصنف وقع سيء للغاية على الأعشاب الرعوية إذ يبيدها عن آخرها مع مرور الزمن بسبب الصعوبة التي يواجهها تصريف محاليل أنفوضته تحت قحولة المناخ.