المنظومة التربوية عبارة عن مؤسسة اجتماعية. أُنشِِئَت من طرف ومن أجل وداخل المجتمع لتستجيب لحاجياته التَّعليمية والتَّربوية. وبما أن هذه الحاجيات تتطوَّر باستمرار بتطوُّر المجتمع، فعلى المنظومة التربوية أن تتكيَّف مع هذا التطور. وهذا يعني أن هذه المنظومة مطالبةٌ بتحسين أدائها بانتظام تمشِّيا مع هذا التَّطوُّر. وتحسين الأداء عبارة عن عملية تتطلب، عند تطبيفها على أرض الواقع، معرفةً معمَّقةً للمنظومة المذكورة. وتعميق معرفة المنظومة يتطلَّب، هو الآخر، تعبئة وسائل بشرية كفأة وأدوات عمل وتشخيص وتحرٍّ ملائمة.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن المعرفة المعمَّقة للمنظومة التربوية هي مهمة طبيعية مُناطةٌ بالبحث في مجال علوم التربية. إن هذا البحث هو الذي يسبُر، أي يتوغَّل في أعماق وفي أغوار هذه المنظومة، أودعونا نقول يختبِرُها، ليبرز ما هي جوانب عجزَها ونواقصَها وثغراتِها. إنه، بامتياز، الوسيلة التي يجب أن يلجأ إلى نتائجها كلُّ المهتمِّين بصياغة السياسة الوطنية في مجال التَّعليم والتَّربية والتَّكوين، وكذلك المهتمين بتمويل هذه السياسة وتنظيمها وتنسيقها وتقنينها وتطبيقها على أرض الواقع…، أي المانحون (المُمَوِّلون) والمنظِّمون والتربويون والمُشرِّعون والمدرسون والمكلَّفون بالتقييم والسياسيون... لدعم وتبرير تدخُّلاتِهم لصالح المنظومة التربوية علما أن هذا البحث يجب أن يتم قبل اتخاذ القرار وبعد القيام بعمل ما لتنفيذه.
والبحثُ في علوم التَّربية هو فرعٌ من فروعِ البحث في مختلف مجالات العلوم الإنسانية. هدفُه الأساسي هو معرفةُ المنظومة التَّربوية معرفةً دقيقةً من أجل تحسين أدائها ومردوديتِها وإنجازاتها، وجعلها تستجيب لمتطلَّبات المجتمع بما فيها تنميتُه ثقافيا، اجتماعيا، أخلاقيا، إنسانسا، حضاريا، اقتصاديا، علميا، تكنولوجياً… وبعبارة أخرى، البحث في مجال علوم التَّربية يتناول بالدراسة مختلفَ جوانب التَّعليم والتَّربية والتَّكوين، وذلك، من خلال تخصُّصاتِه كتاريخ التَّربية histoire de l'éducation، وعلم اجتماع التٍَّربية sociologie de l'éducation، وفلسفة التَّربية philosophie de l'éducation، والإبستيمولوجيا épistémologie، وعلم النفس التَّربوي psychopédagogie، والتَّربية المُقارنة éducation comparée، والديداكتيك أو منهجية تدريس المواد didactique، والإدارة المدرسية administration scolaire، والسياسة التَّعليمية/التَّربوية politique de l'éducation، اقتصاد التَّربية économie de l'éducation، والتَّكوين المهني formation professionnelle، والتَّكوين المستمر formation continue، والتَّعليم والتَّربية الخاصان enseignement et éducation ،spécialisés والتَّقييم évaluation، وكل ما له علاقة بالممارسة التَّعليمية التَّعلُّمية التي تجري أطورُها داخلَ الأقسام…
وعلى ذكرِ ما يجري داخلَ الأقسام من تفاعلات بين المدرِّس والمُتعلِّمين، فالبحث في مجال علوم التَّربية هو الذي يتناول، بالدراسة والتَّمحيص، أساليبَ التَّدريس أو ما يُسمَّى بنظريات التَّعلُّم théories d'apprentissage التي يعتمد عليها كل ما هو بيداغوجي وديداكتيكي.
والبحث في مجال علوم التَّربية هو الذي يتناول، كذلك، بالدراسة والتمحيص، مَلَكَات الطفل والمراهق من حيث نموِّه الفكري developpement intellectuel ومن حيث قدرته على التَّعرُّف cognition، ناهيك عن علاقة المنظومة التَّربوية أو المدرسة بالمجتمع، بالأسرة، بمحيطها الاقتصادي…
بعد هذه التَّوضيحات، السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو: ما هي المكانة التي يحتلُّها البحث في مجال علوم التًّربية في بلادٍ منظومتُها التَّربوية في حاجة ماسة إليه؟.
فيما يخص المغرب، الجواب على هذا السؤال بسيطٌ للغاية: لم تُعطِ السلطةُ الوصيةُ والمُشرفون على السياسات التربوية، لا في الماضي ولا في الحاضر، للبحث في مجال علوم التربية الاهتمامَ اللازمَ حيث أن المنظومة التربوية ليست موضوع دراسات وأبحاث رسمية ومنتظمة بطلب من السلطات العمومية. وهذا وضعٌ يُعَدُّ غير عادي لأن المنظومة التربوية المغربية تفيض بالمشاكل والاختلالات في جميع مستويات اشتغالها son fonctionnement من حيث التنظيم واتخاذ القرار والتدبير والحكامة، الخ. إلى حد تفاصيل الممارسة التربوية، مرورا بتكوين مسؤولي المؤسسات المدرسية والمدرسين وطبيعة التقييم وتكامل المدرسة والمجتمع، والمدرسة والأسرة، الخ.
هل يُعقلُ أن تقومَ الدولةُ المغربيةُ بإصلاحٍ منظومتِها التّربوية في ظل غيابٍ تامٍٍّ للبحث في مجال علوم التًّربية أو بدون مساهمتِه؟ لماذا؟ لأن اتخاذ أي قرار، في إطار إصلاح هذه المنظومة، يكتسي أهمية بالغة، وفي نفس الوقت، يَعدُّ مسؤولية كبيرة. علما أن كلَّ قرار غير مستنير وغير مدعَّم بأدلة علمية مستمَدَّة من البحث قد يصبح، إن عاجلا أو آجلا، غير ملائم إن لم نقل مُضِرا بالمنظومة.
وما يثيرُ الاستغرابَ هو أن السلطةَ الوصية لم تتساءل أو لم تُكلِّف نفسَها عناءَ التَّساؤل عن سبب أو أسباب فشل الإصلاحات المتتالية التي خضعت لها المنظومة التَّربوية! وعوض أن تطلُب من الباحثين أن ينكبوا على سبب أو أسباب هذا الفشل، فإنها قرَّرت تراكُبَ superposition الإصلاحات متجاهلةً وجودَ شيءٍ اسمُه البحث في مجال علوم التًّربية. فكيف للدولة أن تمرَّ من إصلاح إلى آخر دون أن تعرفَ سببَ فشلِ الإصلاح الذي قبله؟ والنتيجة المأساوية هو بقاء المنظومة التَّربوية على حالِها، هذا إن لم تتراجع إلى الوراء. وهو ما تبيِّنه، بانتظامٍ، المرتبات المتأخِّرة التي تحتلُّها منظوتُنا التَّربوية في التَّصنيفات العالمية. وهو، كذلك، ما يُبيِّنه البرنامج الدولي لتتبُّع مكتيبات التلاميذ PISA، من ضعفٍ في مُكتسبات التلاميذ المغاربة في مجالات القراءة والكتابة وفَهمِ النُّصوص والمبادئ الأولية في الرياضيات والعلوم.
ما أعرفُه أنا شخصيا، هو أن البلدان التي تتوفَّر على منظومات تربوية جيِّدة الأداء والنتائج، تتوفَّر، كذلك، على كليات ومعاهد ومدارس عليا متخصِّصة في البحث في مجال علوم التّربية، تُعدُّ الركيزة الأساسية التي تعتمد عليها الدولةُ كلما أرادت أن تُدخِلَ تغييراتٍ على منظوماتها التَّربوية. وعلى رأس هذه البلدان، تأتي كندا ثم بلجيكا ثم سويسرا وفرنسا والولايات المتحدة.
قد يقول قائلٌ إن بلادنا تتوفَّر على "كلية علوم التَّربية". نعم وبكل تأكيد! لكن هذه الكلية لم يسبق أن تمَّ إشراكُها، من خلال البحث وبصفة رسمية، من طرَف السلطة الوصية في ما تُعانيه المنظومة التَّربوية من مشاكل. هذه الكلية، كان بالإمكان، أن تكونَ هي الداعِمُ الرَّسمي لِما تقوم به السلطة الوصية من إصلاحات، وكذلك، لِما يقوم به المجلسُ الأعلى للتربية والتَّكوين والبحث العلمي من أعمال.
وفضلا عن كل هذا، فإن هذه الكلية، كان بإمكانها أن تكونَ رائدا فيما يخصُّ تكييفَ المنظومة التَّربوية الوطنية مع كل ما يحدث من تقلُّبات وتحوُّلات في المجتمع المغربي على المستويات الاجتماعي، الاقتصادي والتَّكنولوجي…
باستثناء بعض البحوث التي يقوم بها بعض طلبة كلية علوم التَّربية على مستوى الماستر والدكتوراة، بمساعدة الأساتذة، فإن البحثَ في مجال علوم التَّربية، كمساندٍ للرَّفع من مستوى مردودية المنظومة التَّربوية وتجويد أدائها، غائبٌ، وفي نفس الوقت، مغيَّبٌ.
غائب لأنه لا يحظى بأي اهتمامٍ وتمويل من طرَف السلطة الوصية. ومغيَّبٌ لأن نفسَ السلطة لا تعيره أي اهتمام من أجل التَّدعيم العلمي لِما تقوم به من أعمالٍ وتغييرات وإصلاحات لصالح المنظومة التَّربوية. البحث في مجال علوم التَّربية، شأنُه شأنَ البحثِ في مختلف مجالات العلوم الأخرى، الدقيقة منها، الطبيعية والإنسانية، الذي لا يحظى باهتمام السياسات التنموية لا من حيث الإرادة السياسية ولا من حيث التمويل.
وغيابُ الإرادة السياسية ينعكس على تمويل البحث العلمي إذ، في أحسن الأحوال، لا يتجاوز هذا التَّمويلُ 1% من الناتج الداخلي الخام produit intérieur brut PIB، علما أن أكثرَ من 80% من هذا التَّمويل تذهب لأجور الأساتذة الباحثين. وإذا كان البحثُ العلمي الذي هو، في الحقيقة، رافعةٌ levier من رافعات التَّنمية بجميع مظاهرها وتدور جلُّ أطواره في مختبرات الجامعات المغربية، لا يحظى باهتمام السلطات العمومية، فما بلك بالبحث في مجال علوم التَّربية الذي لا يشكِّل إلا جزأً ضئيلا بالمقارنة مع البحث العلمي الجامعي! فهل حرَّك حزبٌ سياسيٌّ واحدٌ ساكنا؟ سؤالٌ لا يحتاج إلى جواب!.