في هذا السياق، تعيد "أنفاس بريس"، نشر مقال سبق ونشر يوم 29 ماي 2015، يستعرض بعض أوجه الإشراقات بدولة الإمارات، ويستعرض البصمات التي تركها الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، أول رئيس لدولة الإمارات:
كل من وطأت قدماه أرض الإمارات العربية المتحدة يسترعي انتباهه ذلك الامتداد الأخضر الذي تحولت معه تلك الأرض إلى واحة غاية في الاتساع والاتساق. والسؤال الذي يُطرح هنا: لماذا تحولت الإمارات من صحراء جرداء إلى واحة خضراء تسر الناظرين والزائرين؟ ولماذا تم ذلك في الإمارات، وليس في أي دولة أخرى، علما أن تلك الدول النفطية الآخرى أكثر غنى منها؟ الجواب عن هكذا أسئلة لا يتطلب ذكاء كبيرا ما دام السر يكمن في البحث عن مدبر المجال والقرار السياسي الذي يقف وراءه. وفي هذه الحالة، فإن ما يميز الإمارات عن غيرها هو شخصية الحاكم. ذلك أن المرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة السابق، الذي يطلق عليه لقب «قاهر الصحراء»، أولى للقطاع الزراعى وللتشجير فى دولة الإمارات بصورة عامة وإمارة أبوظبي بصورة خاصة عناية كبيرة تحققت معها إنجازات كثيرة وغير مسبوقة فى ميادين الزراعة والتشجير والحدائق ونشر الرقعة الخضراء.
وهو ما سمح بإحالة الصحراء إلى حدائق غناء ومزارع خضراء مثمرة فى تجربة مثيرة حظيت باهتمام الملاحظين والزائرين وتقديرهم وإعجابهم؛ ذلك أن الشيخ زايد بن سلطان وزع ثروات البلاد على المواطنين بالإمارات لتعم الرفاهية معظم الشرائح. وعوض أن يهب المال وفر لهم الخدمات (تعليم متطور،بقعة أرضية لكل من يتزوج، قروض ميسرة، عمل، أمن، تغطية صحية راقية جدا.. إلخ)، وهي السياسة التي سمحت له بالتركيز على استقطاب الكفاءات من كل الربوع من أجل استخدامها لصالح مواطنيه. إذ قادته حكمته ورغبته في تحقيق الوفرة لشعبه إلى الاستعانة بـ«صائدي الرؤوس» و«مطاردي الكفاءات» ومجموعة من المستشارين من أجل جلب أفضل الكفاءات (في مختلف القطاعات) بصرف النظر عن جنسيتها، سواء أكانت أمريكية أو كورية أو بريطانية أو يابانيةأو عربية...
ولعل هذا هو السر وراء التغلب على الطبيعة الصحراوية القاسية والظروف المناخية الصعبة وشح المياه، حيث تحدى تقارير الخبراء في سبعينيات القرن الماضي الذين كانوا يثبطون عزيمة زرع الاخضرار بالإمارات، وقال الراحل الشيخ زايد لمستشاريه: «دعونا نجرب». وهاهي التجربة تثمر 45 حديقة ومنتزها في أبوظبي لوحدها، موزعة على أكثر من 4000 هكتار فضلا عن تشجير كل الشوارع والفضاءات. وقد روعى فى إنشاء هذه الحدائق أن تكون متطورة ومزودة بكافة المرافق والخدمات اللازمة لروادها مع توفير الألعاب اليدوية والكهربائية بما يتناسب مع أعمار الاطفال.
ولم تقتصر إرادة الشيخ زايد على الاعتماد على حفر الآبار، بل إن زراعة النخيل -على سبيل المثال- التي تعتمد على السقي بالتنقيط تقوم أساسا على تحلية مياه البحر، مادام انقطاع المياه يؤدي حتما إلى موتها في ظرف أسبوع، وما دامت المياه الجوفية شبه منعدمة. ولهذه الغاية تم إنشاء مصنع لتحلية المياه بالفجيرة، حيث تمتد المياه المحلاة عبر الأنابيب إلى سائر تراب دولة الإمارات. كما تم انشاء خزانات المياه ذات الحجم الكبير (مثل خزانات منطقة «ليوا») التى تصل سعتها حتى 1.5 مليون جالون لتخزين مياه الرى وعمل التوصيلات اللازمة لها والقيام بأعمال الديكور الخاص بالحدائق وكذلك بعض الاعمال الانشائية مثل ممرات الحدائق والأسوار والنوافير. وبحكم أن الإمارات توجد في منطقة حارة وجافة لا تلائم الزراعات، فإن صناع «خضرتها» واجهو سؤالا مقلقا: كيف يمكن الحفاظ على الواحة مع هيمنة المناخ الصحراوي؟ ومن هنا كان الاهتداء إلى الحكمة المتمثلة في استغلال اتجاهين في الفلاحة: الأول: نباتي، والنوع الوحيد الذي يلائم مناخ الإمارات هو النخيل؛ بينما الثاني حيواني، وليس هناك أفضل من تربية الجمال التي تلائم طبيعتها طبيعة المجال. وقد ركز الشيخ على هذين العنصرين الموجودين على الأرض منذ قرون. ذلك أن التمر يضم كل المكونات المغذية للجسم باستثناء الكالسيوم الذي يوجد في حليب النوق.
وما كان بالإمكان تحقق ذلك لولا إيلاء الإمارات العربية أهمية قصوى للندوات والمؤتمرات لدعم البحث العلمى وتوفير الكوادر العلمية المختصة وتهيئة الظروف المناسبة لهم وتشجيعهم والاستفادة من البحوث والخبرات من داخل الدولة وخارجها. وفي هذا الصدد برز عبد الوهاب زايد، وهو خبير مغربي مسؤول عن قطاع النخيل بالإمارات، منذ سنة 2000 (أي منذ 15 عاما)، وهو القطاع الذي يشهد الآن ازدهارا كبيرا. كما برز اسم مغربي آخر هو عبد الحق النواسي، المسؤول عن قطاع الجمال. وأكد الخبير عبد الوهاب زايد لـ «الوطن الآن» هذا التقدم الحاصل في قطاع النخيل بالإمارات العربية قائلا: «أنشأنا جمعية أصدقاء النخلة التي يترأسها الشيخ نهيان مبارك آل نهيان. كما تم إنشاء الشبكة الدولية للنخيل والتمور (مقرها بالإمارات). كما أحدثنا جائزة خليفة الدولية للنخيل وتمنح للخبراء والعلماء والباحثين والمزارعين في قطاع النخيل بالعالم».
سمعة الدكتور عبد الوهاب زايد لم تقتصر على الإمارات بل امتدت إلى المغرب الذي احتفى به الملك محمد السادس ووجه له ثلاث رسائل تنويه. وبالفعل، استطاع الإمارات -يقول أستاذ الفيزيولوجية النباتية عبد الوهاب زايد- على امتداد 15 سنة تغيير وجه الزراعة والمساحات الخضراء بالبلد، حيث أصبحت الإمارات من أوائل البلدان المنتجة للتمور، علما أنها كانت تستورده من الخارج. كما تم إحداث مختبر لنسيج النخيل في العين، مما سمح بإنتاج 150 ألف شتلة للزراعة سنويا، ولا يوجد بلد في العالم ينتج الشتائل عن طريق الأنسجة سوى المغرب الذي ينتج 50 ألف شتلة سنويا فقط. وبالإضافة إلى ذلك، استطاعت الإمارات أن تنظم مؤتمرا دوليا لزراعة التمور وإنتاجها في العالم. وآخر محطة هي المؤتمر الدولي الخامس الذي انعقد في مارس 2014، ناهيك عن إشراف الإمارات على كل المؤتمرات؛ وهذا ما يعكس اهتمامها بالقطاع، وجديتها في التعامل مع الدراسات العلمية. وقد سمح هذا الاهتمام بالتحول إلى نموذج عالمي في زراعة النخيل. بل لقد كللت مجهودات الإمارات - يقول محاورنا الحائز على جائزة سين وود الأممية لأحسن مشروع عالمي تنموي - بإدراج «واحات ليوا» (منطقة العين) كتراث إنساني. والأكثر من ذلك، فإن الإمارات التي كانت تحتل المرتبة 10 عالميا، تحتل الآن المراتب الثلاث الأولى دوليا، وأصبحت هي المحور العالمي الرئيسي في كل ما يهم المعلومات والخبرات في مجال النخيل وزراعة التمور. فمن قال إن رحم الصحراء عاقر ولا يوجد فيها إلا الموت القحط. ومن يحلق في سماء الإمارات كأنه يحلق في سماء الجنة، ويكتشف كيف تولد الثعابين الخضراء (في إشارة إلى الطرق والشوارع الملتوية بأبوظبي التي تم تشجيرها كليا) من بطن الصحراء.
المرحوم الشيخ زايد حطم كل النظريات وحولها إلى أوهام. الأوهام أصبحت هي الحقيقة. فمن كان يتخيل أن الصحراء التي كانت مرادفا للجفاف والجدب والعطش تصبح منابت خضراء تضج بالحياة والجمال. ولمن يريد اقتفاء بصمات الشيخ زايد عليه أن يستقل طائرة ويحلق في سماء الإمارات وفوق ثعابين الصحراء!!