لحسن العسبي: القضية الفلسطينية.. هبت رياح الجنة

لحسن العسبي: القضية الفلسطينية.. هبت رياح الجنة جو بايدن(يسارا) ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، وفي الإطار الزميل لحسن العسبي
لنبدأ بهذه الواقعة..
قبل اجتياح الجيش الإسرائيلي بقيادة الجنرال آرييل شارون للبنان صيف سنة 1982 (بالتزامن مع نهائيات كأس العالم لكرة القدم المنظمة حينها بإسبانيا، الذي يجعل الإهتمام الإعلامي عالميا وعربيا ينصب بالدرجة الأولى على تلك النهائيات أكثر من أي موضوع سياسي أو عسكري آخر في العالم)، سيسافر شارون إلى واشنطن في ماي 1982 للقاء وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية ألكسندر هيغ وإدارة الدفاع الأمريكية حيث وضعهما في صورة قرار تل أبيب اجتياح لبنان للقضاء على وجود المقاومة الفلسطينية وعلى منظمة التحرير بزعامة ياسر عرفات. في تلك الزيارة سيتلقى شارون الضوء الأخضر لغزو لبنان بكل ما استتبعه الأمر من مغادرة المقاومة الفلسطينية للأراضي اللبنانية (الذي كان غارقا أصلا في حرب أهلية في القلب منها الخلاف اللبناني اللبناني حول التواجد الفلسطيني ببلاد فيروز وشجرة الأرز)، حيث غادر عرفات ومنظمة التحرير بيروت صوب تونس كجغرافية أبعد عن فلسطين، مثلما ستنفذ الكتائب اللبنانية (المسيحية) واحدة من أبشع الجرائم ضد المدنيين الفلسطينيين العزل في مخيمي صبرا وشاتيلا برعاية وحماية كاملة من شارون.
كان ذلك الإجتياح الإسرائيلي، منذ تأسيس دولة إسرائيل سنة 1948، أول حصار عسكري إسرائيلي لعاصمة عربية (بيروت) دام أكثر من 80 يوما تم خلالها تدمير شبه كلي للمدينة (خاصة بيروت الغربية).
كان الزعيم ياسر عرفات خارج لبنان حين احتشدت قوات شارون على جنوب لبنان لبداية تنفيذ الإجتياح الإسرائيلي ذلك عبر ثلاثة منافذ بجنوب لبنان يوم 6 يونيو 1982، قيل في البداية إنه لن يتجاوز 30 كلمترا. حيث كان على موعد مع القيادة السعودية بالرياض (أساسا مع ولي العهد حينها فهد بن عبد العزيز، لأن الملك خالد بن عبد العزيز كان يعاني من مضاعفات مرض القلب التي سيتوفى بسببها أسبوعا بعد زيارة عرفات تلك يوم 13 يونيو 1982). كان أول من أبلغ عرفات من الفلسطينيين بتوقيت الإجتياح قبل تنفيذه بيومين هو الديبلوماسي الفلسطيني حسن عبد الرحمان (الذي سيعين سنوات بعد ذلك سفيرا لفلسطين بالمغرب من بين مهام رفيعة أخرى عدة تحمل مسؤوليتها)، بعد أن أبلغه الديبلوماسي البريطاني المخضرم بي براين إيركهارت بنيويورك وهو حينها نائب الأمين العام للأمم المتحدة البيروفي خافيير بيريز ديكويلار للشؤون السياسية، أن القوات الإسرائيلية ستشرع في الهجوم على لبنان يوم 6 يونيو. اتصل الديبلوماسي الفلسطيني حسن عبد الرحمان بالكتابة الخاصة لعرفات ببيروت التي سلمته رقم هاتف مقر ضيافته بالرياض فأبلغه بالخبر الموثوق ومصدره، فكان جواب عرفات المباشر بدون مقدمات:
"هبت رياح الجنة"
ما وقع بعدها معروف وهو في ذمة التاريخ. حيث قاد عرفات بنفسه المقاومة في مخابئ بيروت الغربية، حيث عمل شارون المستحيل بكل شبكة مخابرات الموساد للوصول إليه واغتياله وفشل في ذلك أكثر من مرة، إلى أن خرج عرفات بسلاحه ومع رفاقه على سفينة يونانية (رمزية الأوديسا الإغريقية حاضرة هنا).
الخلاصة المركزية الكبرى، هي أن واشنطن تعتبر مركز القرار دوما في دعم وحماية أي موقف لإسرائيل سواء كان سياسيا أو عسكريا، ليس آخره زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتل أبيب بعد تحريك حاملات طائرات أمريكية صوب شرق المتوسط دعما لرئيس الوزراء الإسرائيلي من التيار اليميني التلمودي المتطرف بينيامين نتنياهو (هي الأولى من نوعها لرئيس أمريكي وإسرائيل في حالة حرب منذ تأسيسها سنة 1948)، بعد هجوم المقاومة المسلحة لحركة حماس على محيط غزة يوم 7 أكتوبر 2023 وتكبيدها للمؤسسة السياسية والعسكرية والمخابراتية الإسرائيلية واحدة من أكبر خساراتها منذ حرب أكتوبر 1973. ليطرح السؤال الكبير:
لماذا تدعم واشنطن إسرائيل دون قيد أو شرط وتحمي استبدادها وهمجيتها العسكرية؟. بصيغة أخرى (كما تقول دوما مصادر فلسطينية) لماذا تحدد تل أبيب السقف وتعمل واشنطن على تبني ذلك السقف بلا تردد؟.
إنه سؤال لمحاولة الفهم، بدون أية نية للتموقف مسبقا من الولايات المتحدة الأمريكية كدولة وكبلد وشعب. ذلك أن الشارع العربي والشارع السياسي في كل جغرافيات العالم (من الجنوب) يثير ذات السؤال: لماذا كل هذا الموقف الأمريكي شبه الأعمى لدعم وحماية إسرائيل مهما ارتكبت من جرائم ضد المدنيين في فلسطين؟
الجواب كامن في بنية صناعة القرار السياسي والتدبيري بالولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها كدولة سنة 1778، المتأسسة على منطق اللوبيات (أو ما يعرف ب "جماعات الضغط"). صحيح أن منطق اللوبيات متواجد في كل دول العالم تدبيريا، لكنه في واشنطن مختلف تماما. سبب الإختلاف كامن في الجدر الأصلي لتشكل ليس الدولة الأمريكية بل المجتمع الأمريكي نفسه، ومنظومة القيم التي أطرت وشكلت هوية التأسيس هناك. لأنه علينا دوما تذكر أن المجتمع الأمريكي هو مجتمع هجرات من خارج الأراضي الأمريكية، وأن تأسيس منظومات التدبير محليا ووطنيا هناك، استند منذ البداية على تنظيم المصالح بين مجموعات إثنية مهاجرة لكل واحدة منها منظوماتها القيمية والهوياتية والدينية، وأن منطق تنظيم تلك المصالح يعتمد قوة الضغط الميدانية لهذه الجماعة أو تلك. مما كانت نتيجته أنه حتى الدستور الأمريكي الذي وضعه الآباء المؤسسون للإستقلال الأمريكي عن التاج البريطاني في القرن 18، يُقَعِّدُ لمبدأ سيادة القرار التدبيري المحلي أولا قبل التدبير الوطني العام، وأن الحرية في المبادرة سقف أعلى (حتى شتم الرئيس الأمريكي وأي مسؤول من رجل الشرطة إلى السيناتور حد القدف والتجني محمي دستوريا ضمن خانة حرية التعبير). وأن كل بنية صناعة القرار على كافة المستويات سواء الأمنية أو القضائية أو التعليمية يتم من خلال ما يفرضه تدافع قوى الضغط باختلاف مرجعياتها ومصالحها حسب هذه الولاية أو تلك. لهذا السبب نجد مثلا أن منظومة العدالة تسجل اختلافات بين الولايات حسب المنظومة الفكرية والقيمية لمجموعة الضغط النافذة في كل ولاية على حدة. مثلما نسجل أن منظومة التعليم بكامل الولايات المتحدة الأمريكية قد تأسست منذ البداية بخلفيات ومرجعيات دينية (بروتستانتية في البداية، كاثوليكية في ولايات معينة، ثم منذ 60 سنة إنجيلية. مثلما نجد مؤسسات تعليمية بمرجعيات يهودية فيها التلمودية المتطرفة وفيها التوراتية وهكذا. وابتدأت منذ 30 سنة منظومات تعليمية بمرجعيات إسلامية خاصة مجموعات تركية وإيرانية وأفغانية).
ضمن هذه البنية التدبيرية المؤسسة للهوية الأمريكية تنظيميا (المؤطرة بنص دستوري ليبرالي)، نجحت قوى الضغط الإسرائيلية في أن تراكم سلطة مؤثرة على كافة مستويات صناعة القرار السياسي والإقتصادي والأمني الأمريكي، خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تزامنت مع ترسيخ واشنطن كقوة كبرى ضمن المنظومة الغربية الرأسمالية، التي وضعت نقطة النهاية للقيادة الأروبية للغرب (خاصة بريطانيا العظمى). وأنها لوبي جد منظم، ظل يعمل بدون شعاراتية، في صمت، ما مكنه في أقل من 20 سنة، أن يصبح أهم قوة ضغط فعالة في كامل الولايات المتحدة الأمريكية. بل إنه بلغة الأرقام (مركز مالكوم غارينغي)، إذا هناك تقريبا 10 ملايين فاعل مؤثر في صناعة القرار الأمريكي (داخليا وخارجيا)، فإن عدد أعضاء اللوبي الإسرائيلي ضمنه تتجاوز 1.5 مليون يهودي أمريكي. وأنه متغلغل في كل مفاصل صناعة الهوية الأمريكية على كافة المستويات من السينما إلى الغناء والصحافة إلى صناعة السلاح والتعليم في كافة مستوياته إلى منظومة العدالة. تليها في الأخير كل منظومة السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية (هناك ما يقارب 10 آلاف فرد أمريكي إسرائيلي عامل ضمن هذا المجال الحيوي لوحده).
كيف تمكن هذا اللوبي من تحقيق كل هذه النجاحات، لأنه على عكس الجماعات العربية الأمريكية (حوالي 20 مليون فرد اليوم)، لم يعزل نفسه ضمن غيتوهات ثقافية مقطوعة عن بنية المجتمع الأمريكي، بل إنه عمل على تجسير العلاقة مع تلك البنية المجتمعية، وأنه ظل يصدر عن رؤية محورية أنه جزء من المجتمع الأمريكي (أمريكي يهودي) وليس مثل ما ظل يؤطر المجموعات العربية والإسلامية (التي ظلت تتصرف كعرب أمريكيين وليس كأمريكيين عرب).
إن من علامات قوة اللوبي الإسرائيلي منذ عقود ضمن بنية صناعة القرار الأمريكي، أن له القدرة على الإطاحة انتخابيا بالرؤساء الأمريكيين، مثلما نجحوا في ذلك مع الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر في الثمانينات بعد أن سمحت إدارته بتمرير قانون بمجلس الأمن يطعن في قرار تل أبيب ضم القدس الشرقية العربية الإسلامية (القرار 476). مثلما أنها نجحت في إقالة المندوب الدائم لأمريكا في ذات الفترة، أندري يونغ، بعد لقاء سري جمعه ببيت السفير الكويتي بواشنطن مع عضو من منظمة التحرير الفلسطينية مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية هو زهدي الترزي.
سيقع تحول في موقف الإدارة الأمريكية في علاقتها مع إسرائيل، بتأثير من قوة عمل اللوبي الإسرائيلي، مع مجيئ الرئيس الأمريكي دونالد ريغان (في عهده دشن نظام السوق الجديد المتأسس على ليبرالية مطلقة بالتكامل مع منهجية رئيسة الوزراء البريطانية تاتشر). وهو التحول الذي تزامن مع بداية صعود غير مسبوق للتيار الإنجيلي بالولايات المتحدة الأمريكية الذي تمدد بعد ذلك في كامل دول أمريكا اللاتينية (خاصة بالبرازيل، حيث الرئيس السابق مثلا بولسونارو العسكري المتطرف نجح في الفوز بدعم من ذات التيار الديني المتشدد المناهض للكاثوليكية المسيحية). ولا يمكن فهم الكثير من أمور العلاقة بين واشنطن الجديدة هذه والتيارات المتطرفة دينيا بإسرائيل (ضمنها التيار التلمودي لرئيس الوزراء نتنياهو) بدون استحضار بنية التفكير الخاصة بالتيار الإنجيلي الذي يؤمن بإسرائيل الكبرى، التي يرى أنها هبة من الله لشعب إسرائيل لدرجة التقديس (لهم مفهوم خاص حتى لنهر الأردن). مثلما تزامن مع بروز أطروحة سياسية قانونية مرتبطة بالقضية الفلسطينية أطلقها رجل قانون إسرائيلي، تقول بأن الضفة الغربية وغزة (التي ضمتها تل أبيب بعد حرب 1967) ليست أراض محتلة بل أراض متنازع عليها، تأسيسا على دفع يقول بأن تلك الأراضي لم تكن تابعة لأي دولة ذات سيادة بسبب عدم وجود قانوني لدولة إسمها فلسطين وأن كل ما قامت به إسرائيل هو ضمها إليها وأن لها بالتالي حق السيادة عليها. هذا الطرح الجديد ستتبناه الإدارة الأمريكية من حينها إلى اليوم، حيث أصبحت الطريق ليست المطالبة بإنهاء "الإحتلال" بل ب "التفاوض" بين أطراف متنازعة تحت سقف الأمم المتحدة (ومجلس الأمن) وبرعاية منها.
مع مجيئ الرئيس دونالد ترامب سيتعزز أكثر ذلك التوجه المتطرف للسياسة الإسرائيلية ضمن مجالات صناعة القرار الخارجي للولايات المتحدة الأمريكية الخاص بمنطقة الشرق الأوسط (رغم بعض الفجوة الإيجابية التي بدأت تبرز في مرحلة الرئيس الديمقراطي قبله باراك حسين أوباما المؤطرة ضمن رؤية لشرق أوسط جديد من أفغانستان مرورا أساسا بإيران حتى شمال إفريقيا). كانت من ترجمات ذلك التعزيز قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والتغاضي عن سياسة بناء المستوطنات بالضفة الغربية التي تنهي عمليا مع فكرة الحل السياسي لدولتين.
اليوم، مع ما وقع يوم 7 أكتوبر 2023، بكل الهمجية التي تمارسها القوات الإسرائيلية بغزة وبأجزاء من الضفة الغربية (جنين بالتحديد)، بدعم كامل ومطلق من واشنطن التي هي على أبواب انتخابات رئاسية يطمح الديمقراطيون للفوز بها مجددا، تتضح خلاصتان كبيرتان:
- الأولى هي أن العملية النوعية ليوم 7 أكتوبر قد نجحت في أن تعيد القضية الفلسطينية إلى مقدمة الإهتمام في العالم، وجعلت الرأي العام الغربي (بأجياله الجديدة) ينزل للشوارع للتظاهر لحماية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بما سيكون لذلك من أثر انتخابيا في تلك الجغرافيات الغربية (مثلا مهم قراءة التحول في الموقفين الفرنسي والبريطاني سياسيا وإعلاميا بعد توالي تلك المظاهرات الحاشدة). مثلما أعاد إلى الواجهة الطروحات القانونية والحقوقية والسياسية المتقاطعة مع الملف الفسطيني.
- ثانيا أنه لأول مرة أُخْرِجَت الورقة الفلسطينية من يد العرب (عبر تنظيماتهم المؤسساتية في مقدمتها جامعة الدول العربية) وتم تركيزها في يد إيران، التي أصبحت هي المنفذ الذي عبره يتم التفاوض بين حماس وإسرائيل والإدارة الأمريكية. هذا واقع جديد غير مسبوق في منطقة الشرق الأوسط. مهم أن نسجل أنه حتى تركيا بكل قوتها السياسية والأمنية والإقتصادية (عضو في الحلف الأطلسي) لم تنجح في ما تنجح فيه إيران اليوم عبر البوابة الفلسطينية واللبنانية واليمنية والسورية والعراقية. وحتى عربيا هناك فإن الدور القطري مؤثر لأنه متساوق مع الموقف الإيراني، بينما الموقفان المصري والسعودي يعيدان بناء شموليا لدورهما الإستراتيجي بالمنطقة، يحتاج وقتا واجبا لبروزه واتضاح أبعاده وملامحه.
ماذا عن المغرب؟
في ظل غياب موقف منسق مغاربيا، بسبب عناد مؤسف ومعطل يؤطره قصور النظر الجيو ستراتيجي بقصر المرادية بالجزائر (الذي يبني كل مواقفه على معاكسة المغرب كقوة إقليمية بغرب إفريقيا).. وأمام تحدي حماية وحدتنا الترابية التي تعتبر قضية وجود بالنسبة لنا كدولة وكأمة (بكل ما يفرضه ذلك من فاتورة وتحديات)، فإن الرؤية الموضوعية تفرض علينا الإقرار أن مجالات التحرك مغربيا مطوقة بالكثير من أسباب البلوكاج. لكنه بلوكاج ليس قدريا ولا دائما، بل إن لبلادنا أوراقا فاعلة مؤثرة غرب متوسطيا وغرب إفريقيا وكذا فلسطينيا وداخل بنية صناعة القرار بإسرائيل. ما يجعل الرباط وسيطا موثوقا سواء من قبل الفلسطينيين (كل الفلسطينيين) بسبب أن الموقف المغربي رسميا وشعبيا لم يتموقع قط ضمن الملف الفسطيني مع هذا التيار أو ذاك، بل ظل دوما يعتبر التضامن مع فلسطين سقفا فوق الإختلاف الداخلي الفلسطيني، ولم يتاجر قط بالقضية سياسيا (أكثر من ذلك هو البلد الوحيد الذي يمارس دعما فعليا ميدانيا في الداخل الفلسطيني من خلال مؤسسة بيت مال القدس وكذا من خلال المستشفيات الميدانية العسكرية في غزة. مثلما أنه البلد العربي الوحيد الذي تأسست فيه شعبيا جمعية لمساندة الكفاح الفلسطيني منذ 1968 تضم كل أطيافه السياسية والنقابية). مثلما أن نفاذ كلمته في الداخل الإسرائيلي آت من قوة علاقة المغاربة اليهود ببلدهم الأصلي في داخل إسرائيل وأنهم ورقة مؤثرة ليس فقط انتخابيا بل مؤسساتيا وثقافيا هناك (لها امتدادات حتى ضمن منظومة صناعة القرار أمريكيا وأروبيا).
منطق الأمور يفرض إذن قراءة جد مختلفة لطبيعة علاقة المغرب والمغاربة مع أزمة الشرق الأوسط، التي فيها تواز بين المبدئي بمعاني حقوق الإنسان الكونية (التضامن المطلق مع حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية)، وبين المصلحة القومية الوطنية العليا للمغرب دولة ومجتمع. لهذا السبب قليل من يفهم أن المغربي يخرج في مسيرات مليونية من أجل فلسطين، لكنه يخرج أيضا في مسيرات مليونية من أجل حقوقه الترابية ومصالحه القومية العليا. فلا تناقض في ذلك في الوعي المغربي، الذي ليس اعتباطا أنه أبدع منذ عقود الشعار السياسي الأشهر "فلسطين عربية والصحراء مغربية".
أكثر من ذلك، حتى الإتفاق الثلاثي المغربي الأمريكي الإسرائيلي الموقع بالرباط سنة 2020 (الذي تَفهَّمَ بالمناسبة الرأي العام المغربي أسبابه ومقاصده بمنطق المصلحة القومية العليا)، ليس مندرجا ضمن ما تسميه واشنطن "اتفاق أبراهام" (حيث لا تنصيص على ذلك في أية وثيقة موقعة بين الأطراف الثلاثة) مثلما تم ويتم مع دول خليجية. لأن حساباته مختلفة وأنها تمت بمنطق تبادل مصالح مغربي أمريكي في المقام الأول، فرضه غياب أي أفق معزز لحماية المصالح القومية العليا المغربية (التي الدولة مؤتمنة على حمايتها) مغاربيا وعربيا.
إن السياسة فن الممكن في نهاية المطاف.