صناعة صهيونية...."اختراع الشعب اليهودي"

صناعة صهيونية...."اختراع الشعب اليهودي" شلومو ساند وكتابه "اختراع الشعب اليهودي"
قد حاولت أن أشرح في كتابي "اختراع الشعب اليهودي"، كيف فبركت الحركة الصهيونية تاريخًا مزيفًا لليهود مبنيًا على فكرة الشعب اليهودي. وبيّنتُ أن هذه فكرة خاطئة وخرافة، تمّ استعمالها من أجل تبرير الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ومن أجل شنّ الحروب على الدول العربية. 
أطروحتي في هذا الكتاب، أنه ليس ثمة شعبٌ يهودي بالمعنى المتفق عليه والرائج. ثمة أقوام يهودية مختلفة، وذات ثقافات مختلفة. والقاسم المشترك بينها، هو ممارستها للشعائر والطقوس الدينية نفسها. فالشعب بالمعنى الأنثروبولوجي والسوسيولوجي (الاجتماعي)، مصطلحٌ يُطلق على مجموعة بشرية تجمعها ثقافة مشتركة مثل؛ اللغة والأدب والموسيقى وما إلى ذلك من الشروط الثقافية الأخرى. وهذا ما لا ينطبق على الشعب اليهودي الذي اخترعته الحركة الصهيونية، إذ لا توجد ثقافة مشتركة بين يهود ألمانيا ويهود العراق أو المغرب، ما يعني أن الطوائف اليهودية كانت تعيش في كنف ثقافات وطنية مختلفة وفق البلد الذي تقيم فيه. من جهة أخرى، هناك شرط إضافي يحدّد مفهوم الشعب ويتمثّل في الانحدار من أصل واحد. وفي هذا الباب أيضًا دأب مؤرخو الحركة الصهيونية على ترويج خرافة أخرى، تقول إن فلسطين هي أرض اليهود، وأنهم اقتلعوا منها من قبل الإمبراطور الروماني تيتوس في سنة 67 ميلادية. لا أعتقد بصحة هذه الحكاية، إذ لا يوجد دليل تاريخي أو علمي مقنع، يسندها. خلاصة الأمر، إن الديانة اليهودية كانت أول ديانة توحيدية وتبشيرية. وقد انتشر اليهود في بلاد الرافدين وفي الشرق الأوسط وفي حوض البحر الأبيض المتوسط، وهذا ما يفسّر اعتناقها من قبل أعداد كبيرة. وبعد ظهور الديانتين المسيحية والإسلام، كفّ اليهود عن التبشير وانكفأوا على أنفسهم في كل المناطق التي كانوا يعيشون فيها. كذلك فإن الحركة الصهيونية أسست أسطورة "الشتات اليهودي" الذي يلتئم شمله في أرضه الأصلية فلسطين، وهذه أيضًا كذبة صارخة. 
لقد تعرضتُ إلى العديد من المضايقات وحتى التهديد بالقتل بعد صدور كتاب "اختراع الشعب اليهودي"، لكنني لمست أيضًا تضامنًا من كثير من القرّاء التوّاقين إلى قراءة التاريخ بصورة مغايرة، ونزع هالة القدسية عن المسألة اليهودية، وهذا أمرٌ يُثلج القلب. من جهة أخرى، مرتاح بسبب أن كتبي تلاقي رواجًا وتمّت ترجمتها إلى عدة لغات. 
نحن نعلم بأن هناك أناسا في فلسطين المحتلة، ضاقوا ذرعًا بالسياسة الإسرائيلية العنصرية، ورغم أنهم قِلّة، إلا أنهم هم الأمل الوحيد المتبقي. على أي حال ليس لديَّ ما أخسره. لقد وصلتُ إلى مرحلة من العمر لا يهمني فيها سوى الدفاع عن أفكاري بكل الوسائل. 
طبعًا، كان الهجوم عليّ متوقَّعًا، خاصة بعد صدور كتابي "لم أعُدْ يهوديًا" الذي شكّل صدمة للكثيرين. فأنا أعدّ نفسي إسرائيليًا من أصل يهودي، تمامًا، مثلما أن هناك فرنسيين من أصل يهودي، وأميركيين من أصل فلسطيني. لهذا قلتُ إنني لستُ يهوديًا، وأنا أعدّ نفسي علمانيًا وملحدًا. قلت هذا، لأن اسرائيل تعدّ نفسها دولة يهودية لا دولة لكل الإسرائيليين. أن تكون يهوديًا في إسرائيل، فإن ذلك يمنحك وضعًا امتيازيًا، وأنا أرفض هذا الامتياز الذي تمنحه لي اليهودية.
وقد حوربْتُ بقوّة هنا في فرنسا أكثر مما حوربْتُ في إسرائيل. وحتى عهدٍ قريب كانت وسائل الإعلام الفرنسية والمجلات المتخصصة وكبريات الصحف مثل "اللوموند" و"ليبراسيون" تقاطعني وتتجاهل أعمالي. كما اتُهمتُ بمعاداة السامية من قبل فرنسيين يهود وغير يهود، وهذا ما أثار استغرابي كثيرًا.
شهدت الساحة الثقافية الفرنسية تراجعًا كبيرًا في العقدين الأخيرين. وأستطيع القول إنها تعيش مرحلة انحطاط. لقد ذهب زمن المفكّرين والفلاسفة والمثقفين الكبار والشجعان الذين كانوا يلمعون بأفكارهم الطليعية وبمواقفهم الملتزمة بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ودفاعهم عن الأقليات. كوّنت نفسي وثقافتي من خلال قراءة ميشيل فوكو وجيل دولوز وجان بول سارتر وجورج سوريل وآخرين. طبعًا توجد اليوم أسماء راهنة تستحق الاحترام مثل إدغار موران وآلان باديو، لكنها أصوات نادرة ولا تأثير لها. الساحة الثقافية والإعلامية في فرنسا، محتكرة للأسف من قبل مثقفين سطحيين وتافهين. أنا مثلًا أشعر بالعار حين أقرأ لمثقفين من أمثال آلان فيلكينكروت أو إيريك زمّور. يترافق ذلك مع أمر آخر، فهناك هجوم غير مسبوق على العرب والمسلمين من قبل هؤلاء المثقفين، وهو هجوم يشبه كثيرًا عنصرية اليمين الإسرائيلي المتطرف. ألاحظ أن معاداة السامية التي كانت سائدة في مرحلة معينة في تاريخ فرنسا، تحوّلت الآن إلى موجة من العداء للإسلام يقودها قطيعٌ من المثقفين والكُتاب من اليهود ومن الفرنسيين، ويجاهرون بها في وسائل الإعلام بكل حرية، للأسف. 
 
- شلومو ساند
مقتطف من حوار معه
ترجمة: عبد الإله الصالحي