ارتساماتي حول محاولات إصلاح التعليم بصفة عامة.. والتعليم العالي بصفة خاصة.. ناتجة عن محاولة الإجابة عن سؤال عميق.. لماذا تتوالى الإصلاحات دون نتيجة تُذكر؟ أو لنقل لماذا لا تستقر الإصلاحات؟
طبعا.. هناك إجابات عديدة.. أذكر منها في هذا المقال محاولات إصلاح التعليم (أولا).. ثم محاولات إصلاح التعليم العالي (ثانيا).. ثم الإشكال الرئيسي (ثالثا)..
أولا: عايشت محاولات 15 وزيرا لإصلاح التربية الوطنية
تمت محاولات إصلاح التعليم من خلال 33 وزيرا للتربية الوطنية.. بمعدل وزير لكل 22 شهراً ونصف الشهر تقريبا، عايشت منهم 15 وزيرا منذ التحاقي بالتدريس الجامعي في فاتح أكتوبر 1979.. وهم على التوالي: عزالدين العراقي، محمد الهيلالي، الطيب الشكيلي، محمد الكنيدري، رشيد بلمختار، مولاي اسماعيل العلوي، عبد الله ساعف، حبيب مالكي، أحمد اخشيشن، لطيفة العابدة، محمد الوفا، لحسن الداودي، محمد حصاد، سعيد أمزازي، شكيب بنموسى..
15 وزيرا.. لكل تصوره.. ومنهجه.. وكأن التعليم في حاجة إلى كل هذه المناهج..
15 وزيرا.. لجلهم خلفية حزبية.. يُفترض أن هناك تصور.. إن لم يكن إيديولوجي.. فعلى على الأقل تصور سياسي..
وهكذا.. من اللجنة الرسمية لإصلاح التعليم لسنة 1957، إلى الرؤية الاستراتيجية 2015-2030.. مرورا بمحطات عديدة من بينها مناظرة المعمورة 1964.. مناظرة إفران الأولى 1970.. مناظرة إفران الثانية 1980.. الميثاق الوطني للتربية والتكوين 1999-2010.. البرنامج الاستعجالي 2012 -2015.. ولا زال الإصلاح يُراوح مكانه..
ثانيا: عايشت محاولات 16 وزيرا لإصلاح التعليم العالي
واكبتُ عشرات الإصلاحات ومشاريع الإصلاح..
لاحظتُ أن التوجه العام هو التنكر لمصطلحي "الجامعة" و"الكلية"..
إصلاحات تصب كلها تدريجيا في اتجاه تحويل "الكليات" إلى "معاهد أو مدارس عليا"..
من محاولة تحويل الكليات لمراكز للتعليم العالي.. إلى التكوين القصير والمتوسط.. إلى التخلي عن نظام الأربع سنوات.. إلى التخلي عن تعدد التخصصات في السنة الأخيرة.. إلى التعديلات غير المبررة في مواد التدريس.. إلى اعتماد نظام الفصليْن داخل السنة الجامعية الواحدة.. إلى تبني نظام الوحدات.. إلى التقليص العملي من حجم المقررات.. إلى إدخال مواد لا علاقة لها بالتخصص من قبيل المعلوميات واللغة الفرنسية.. إلى نظام غير صالح لتقييم الامتحانات.. إلى إلغاء المداولات.. وغير ذلك كثيييييييييييييييييير..
هذا التوجه العام انطلق في البداية من مسلمة خاطئة..
انفتاح الجامعة على المحيط!!!!
كان "المحيط" متخلفا.. فتخلفت الجامعة معه..
كان "المحيط" مطبوعا بالكسل والتراخي والاتكالية.. فأصاب الكسلُ الجامعةَ..
كان "المحيط" موسوما بالزبونية والمحاباة.. فأصابت العدوى الجامعة..
باختصار.. كان المحيط فاسدا.. ففسدت الجامعة..
كان انفتاحا.. ولا يزال.. غير محسوب العواقب.. ولا زلنا نُراوح مكاننا..
كل هذه المحاولات وغيرها تمت من خلال معايشتي لـ 16 وزيرا للتعليم العالي.. عز الدين العراقي، محمد هيلالي، الطيب الشكيلي، محمد كندري، إدريس خليل، نجيب الزروالي، خالد عليوة، حبيب المالكي، أحمد أخشيشن، لحسن الداودي، محمد حصاد، محمد الأعرج، خالد الصمدي، إدريس أوعويشة، سعيد أمزازي، عبد اللطيف ميراوي..
ملاحظة: بعض التداخل مع أسماء وزراء التربية الوطنية يرجع لكون بعضهم كان يقوم بالمهمتين معا..
ثالثا.. الإشكال الرئيسي
وأنا أتابع مسلسل إصلاح التعليم ببلادنا في مختلف أسلاكه.. كثيرا ما يبدو لي أننا لم نبدأ من حيث تجب البداية..
وأعتقد أن أول ما ينبغي مناقشته هو أي مواطن (ة) نريد؟ لأي مشروع مجتمعي؟
وما دمنا لم نطرح هذا السؤال، سيبقى مصير كل المشاريع الإصلاحية ما نعيشه حاليا..
لدينا إشكال نتحاشى طرحه سواء على صعيد النقاش المؤسساتي أو النقاش العمومي..
فإذا كنا نُريد فعلا أن يكون رجال ونساء المستقبل مواطنون ومواطنات فاعلين بكل الوعي في ترسيخ دولة الحق والقانون.. ودولة المؤسسات.. والتنمية البشرية السليمة.. فإن مشاريع الإصلاح ينبغي أن يتم توجيهها نحو تكوين مواطنين ومواطنات يمتلكون هذا الوعي والإدراك من خلال أدوات التحليل والتقييم.. وباختصار يمتلكون منهجية في التعامل مع كل ما يُطرح عليهم من تحديات.. وفي كل المجالات.. السياسية.. الاقتصادية.. الاجتماعية.. الثقافية.. الحقوقية.. البيئية.. الفنية...
وأعتقد أن هذا التوجه موجود فعلا ببلادنا.. لكن دون أن يُشكل رأيا عاما ضاغطا..
إنه توجه محصور لدى بعض الفاعلين الحزبيين.. والنقابيين.. والحقوقيين.. والمدنيين..
إنه توجه غير منتشر بما فه الكفاية.. ويلزمه المزيد من الترافع والتحسيس..
إنه التوجه المتمثل في القوى الحية بالبلاد..
إنه التوجه الذي يعتبر أن كل مشاريع الإصلاح ببلادنا فاشلة..
لكنه مع كامل الأسف.. لا يُحسن تقييم الوضع الحالي للتعليم.. إذ يعتبر أن "مهندسي" الإصلاح هم الفاشلين..
وفي مقابل ذلك.. وككل المجتمعات.. هناك قوى "غير حية".. لا تريد للبلاد مواطنين ومواطنات.. ولكن مجرد أفراد يدرسون ويعملون دون إدراك ما يقومون به..
إنه التوجه الذي لا يُريد نشر أي وعي بالبلاد..
إنه توجه غير جلي بما يكفي..
إنه مجوعة قوى تجمعها مصالح متنوعة.. يغلبُ عليها الطابع الخاص..
إنه التوجه الذي يقود إصلاح التعليم أو يُوجهه أو يُؤثر عليه..
إنه التوجه الذي يُهلل لكل مبادرة إصلاحية.. فيعتبرها ناجحة إلى أن يتم تعديلها أو استبدالها أو حتى إلغاؤها..
لكنه يُحسن تقييم الوضع الحالي للتعليم.. ففي كل مرة يعتبر إن الإصلاح في حاجة إلى إصلاح..
وهكذا دون أي تفكير في المستقبل البعيد للبلاد..
خلاصة..
وجود تصورين مُتناقضين.. يجعل الحكم على إصلاح التعليم مختلفا..
إنه فاشل من وجهة نظر التوجه الأول.. فهو لم يُؤد إلى تكوين مواطنين ومواطنات كما يتصورونهم..
لكنه إصلاح ناجح من وجهة نظر التوجه الثاني.. فهو منَعَ تكوين مواطنين ومواطنين قادرين على تنمية البلاد بالوعي اللازم..
وبين هذا وذاك.. وكل محاولة إصلاح وأنتم/ن بألف خير..