البقالي: خواطر من ألمانيا.. الحرية هي الطريق إلى كل شئ جميل

البقالي: خواطر من ألمانيا.. الحرية هي الطريق إلى كل شئ جميل المحامي البقالي الطاهري رفقة ابنته ريم وسط دورتموند
كان يوم أحد 9 يوليو لسنة 2023، عندما كنت رفقة زوجتي في زيارة لابنتنا ريم بدولة ألمانيا الفدرالية، اقترحت علينا ريم زيارة الكلية التي تخرجت منها بمدينة دورتموند. على الفور استجبنا للاقتراح، فأخذنا الطريق إلى محطة القطار. استقلينا القطار في اتجاه مدينة دورتموند. ما لفت انتباهي في المحطة  حركة الناس مع الآلة لأخذ التذاكر، أو لاقتناء بعض الأكلات الخفيفة والمشروبات، ولا أحد تصرف مع الآلة بعنف أو اشمئزاز. فتبين لي أن هناك انسجام مع الثورة الرقمية من كل الاجيال. 
فور وصولنا إلى المحطة الرئسية لمدينة دورتموند، عند نزولنا من القطار أثارت انتباهي التشكيلة البشرية التي أصبح الشعب الألماني يتفاعل ويتعايش معها وفيها الأوربي والافريقي والاسيوي والعربي والامريكي، الكل منضبط للمؤسسة القانونية الألمانية التي تحمي قيمه وتوازناته. 
بعد انطلاقنا في اتجاه كلية الهندسة الميكانيكية مشيا على الأقدام أثارت انتباهي إحدى الكنائس كونها مقفلة. فتوجهت بنظري إلى الأعلى حيث نواقصها، تبين لي أن النواقص لم تشتغل لمدة طويلة. على الفور اطلعت على واجهة الهاتف للتأكد من اليوم، فتأكد لي ادأن اليوم يوم أحد، وتوقيت التردد على الكنائس لأداء طقوس الصلاة، فتبين لي أن هناك عزوفا. فانصرف ذهني بالتأويل عن القيم النبيلة التي يحملها الشعب الألماني وعن مرجعيتها. ألم تساهم الكنيسة في بناء هذه القيم؟
إلا أنني استرجعت الثورات التي قادها الشعب الأوربي عامة والألماني بصفة خاصة، ضد طغيان الكنيسة بعد أن أمست الثقافة لها أهداف سامية تجسدت في تقديس الحرية والدعوة الى الاصلاح والتغيير. واضحت الشعوب الأوربية منصهرة مع مثقفيها من حيث الرؤيا والتصور. فانضمت الشعوب الأوربية عامة والشعب الألماني بصفة خاصة، إلى شعار "الدين لله والوطن للجميع"، وإن الحرية هي الطريق الصحيح الى التغيير والاصلاح، والارضية الى تعرية النفاق والمنافقين، ومفتاح الدخول لاختيار من يتولى قيادة المؤسسات، واختيار النظام السياسي الصائب.
هنا استوقفتني أفكار المفكر الايراني علي شريعتي في كتابه" النباهة والاستحمار"، الذي يرى  في صراع المذاهب الشيعي و السني عبثا، لأن الحاكمين باسم الدين لا يسعون الى نشر الفضيلة بين الناس، بل يسعون الى السيطرة على الناس. أبهذه النظرة تم الطلاق بين الشعب الألماني وكهنة الكنيسة؟ لأن الكنائس ما زالت مبانيها تخضع للترميم والتزيين وبالقراءة التاريخية لما لها وما عليها، وما زال هناك مؤمنون بقيم الكنيسة لا يتدخلون باسم الدين فيما هو مشترك بين الجميع والخاضع للمحاسبة المؤسساتية. فالقيم التي يحملها الشعب الأوربي عامة والألماني خاصة، بلورتها الحداثة بمفكرين مبدعين. لقد انخرط الشعب في إبداعاتهم، وأضحى هناك تكامل بين الشعوب الأوربية ومفكريها، فأنجبت الحرية في أرقى صورها والديمقراطية  كبديل للانظمة التي كانت متحالفة مع الكنيسة. والثورة الفرنسية هي من أعلنت عن العهد الجديد تتويجا لما كتب قبلها وأثناءها وبعدها، أي مع ظروف عصر التنوير. 
من هذه المنطلقات أضحت  ألمانيا قوية بمؤسساتها تحاسب بموجبها ما هو مشترك بين الجميع تحت الرعاية الكاملة للمؤسسة القانونية، وما هو لله تبقى محاسبته لله وحده. 
ونحن نقترب من كلية الهندسة، تشعر بهيبة المكانة العلمية التي تحملها هذه المعلمة العلمية من خلال هندسة معمارها وتوافد الطلبة على المكتبة للتحضير للامتحانات المقبلة، تحكي لي ابنتي العلاقة التي تجمع الطالب بأستاذه تكاد تكون علاقة صداقة، ويرتاح الأستاذ عندما يناديه الطالب باسمه بدل لقبه العلمي يتادأكد له أن عاطفة الخوف والدهشة تلاشت بينهما. فالأستاذ قابل للنقاش في مادته الى أن تتأكد الحقيقة العلمية دون الإحساس بالإزعاج. وتكريما للأمانة العلمية التي يحملها على عاتقه الأستاذ.
هكذا أنهينا زيارتنا لهذا الصرح العلمي الذي تعتمده ألمانيا في بناءها الاقتصادي والثقافي والتنموي. 
عائدين في اتجاه قلب المدينه النابض بكل صنوف الحركة التجارية، فتوقفنا عند إحدى المطاعم السورية لتناول وجبة الغذاء، تديره ثلة من الشباب السوري، كلهم في مقتبل العمر، تقرأ على وجوههم حسرة مأساة الهجرة القسرية. ومن خلال النقاش كلهم على امل العودة في ظل واقع آخر، ولو لم تظهر معالمه بعد. 
يقول بسام نحن ضحايا أنظمتنا كعرب، معاهدة سايكس بيكو مزقت الوطن العربي الى دويلات. ولكن مخطط الفوضى الخلاقة قسمت الوطن العربي إلى مذاهب وطوائف وعرقيات. فالجرح صار أعمق، ومعالجته صارت صعبة التشخيص والتوصيف. إنها ازمة حرية وديمقراطية.
غادرنا المطعم وأنا أتالم لأني كنت على معرفة بالنهضة السورية لما كانت على واجهة النهضة العربية بنخبها الفكرية والطامحة إلى التغيير. ولكن في غياب الحرية والديمقراطية الحقة، انهار كل شيء. 
ألمانيا خير نموذج، انهيارها في الحرب العالمية الثانية في ظرف وجيز بنته الحرية والديمقراطية. في ظرف وجيز  كذلك، وبحماس الدولة القوية. فالحرية هي الطريق إلى كل شيء جميل.