الحكاية بدأت، كما يذهب إلى مؤرخون بمنطقة «غارديماو»، الواقعة على الحدود التونسية-الجزائرية، حيث اتصل به الفرنسيون للعمل ضمن مخطط الجنرال ديغول بعد خروج فرنسا، وهو المخطط القاضي بتصفية رجال الثورة الجزائرية الحقيقيين «أمثال عبان رمضان، يوسف بن خدة، مصطفى بن بولعيد، عميرة علاوة...»، وإحلال الضباط الجزائريين العاملين في القوات الفرنسية محلهم على نحو «يبقى الجزائر فرنسية من عدة أوجه»، بحسب ما تعهد به الجنرال ديغول في مذكراته.
وكان من بين التدابير التي اتخذها الجنرال، قبل الخروج من المستعمرة، دعمُ مجموعة «ضباط فرنسا» التي شكلها هواري بومدين بإيعاز من الفرنسيين، لاستلام السلطة في الجزائر، والتي يعرف أعضاؤها باسم «ليداف» les dafs))، وهم العسكريون الجزائريون الفارون من الخدمة في الجيش الفرنسي والملتحقون بالثورة عام 1959، أو ما سُمّي «فوج لاكوست»، نسبة إلى روبير لاكوست، الذي كان حاكماً عاماً مقيماً في الجزائر بين عامي 1956 و1958. وهؤلاء هم احتلوا بعد الاستقلال (1962)، مقدمة المسرح السياسي الجزائري، فهم الذين أصبحوا يقودون الجيش، ويسيطرون على أجهزة المخابرات والأمن، ويمسكون بزمام الحكومة، ويتمتعون بنفوذ مخيف أجبر قادة الثورة الحقيقيين على التراجع إلى الخلف، أو أدى بهم إلى التصفية أو الاعتقال أو التحييد، وفي أحسن الحالات إلى «الإلحاق»، وعلى رأس هؤلاء الوافدين من الجيش الفرنسي، الجنرال خالد نزار، والجنرال محمد مدين المشهور بـ «توفيق»، مدير الاستخبارات العسكرية السابق، والجنرال محمد العماري القائد السابق لأركان الجيش الجزائري، فضلا عن الجنرال العربي بلخير، والجنرال محمد التواتي، وغيرهم ..
ومما يؤكد عمالة الهواري بومدين لفرنسا أن رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، بلعيد عبد السلام، قال إن «التحاق ضباط فرنسا كان مبرمجا»، بينما صرح آخرون أن هؤلاء الضباط قنبلة أرسلها ديغول للجزائر. بل إن بومدين، لما حوصر بقوة الأدلة التي تدينه وتكشف عمالته لفرنسا، قام باعتقال بعض قادة الثورة المشهود لهم بالالتزام الوطني، وأعرب عن نيتته في تصفيتهم أو تهميشهم، أمثال الباءات الثلاثة: «عبد الحفيظ بوصوف، الذي اعتزل العمل السياسي غداة الاستقلال إلى أن توفيَّ في بيته سنة 1980، والذي يُروى عنه أنه عندما سُئل عن وصيته الأخيرة قبل الوفاة، قال: «أرجوكم لا تثقوا في فرنسا»)؛ (كريم بلقاسم الذي فرَّ إلى الخارج وأصبح معارضا من المنفى، لكنه وُجد مقتولا في غرفته بأحد فنادق فرانكفورت الألمانية في خريف 1970)؛ (الأخضر بن طوبال الذي اعتزل السياسة بعد الاستقلال ليتقلد وظائف أقل من مقامه منها رئيس مجلس إدارة شركة الحديد والصلب، ثم توارى عن الأنظار في فيلا ساحرة بحي حيدرة في أعالي العاصمة إلى أن توفي سنة 2010). هذا فضلا عن وقوف بومدين وراء مجموعة من الاغتيالات بعد إنشائه لفرق اغتيالات خاصة تتبع وتصفي العاصين والمتمردين الجزائريين، مثلما وقع للقيادي محمد خيضر في مدريد يوم 4 يناير 1967، وأيضا أحمد المدغري ولعروسي خليفة اللذين كانا ينتميان إلى مجموعة وجدة، إلى جانب محمد خيضر، رابح بوخالف.. وآخرين. ولم يتمكن من الإفلات من بطش الخائن سوى الذين هربوا إلى الخارج، مثل محمد بوضياف ومفدي زكريا وأيت أحمد..
ولا يمكن أن ننسى حكاية إعدام العقيد محمد شعباني بسبب تجرؤه في مؤتمر لجبهة التحرير الجزائري، سنة 1964، على المطالبة بـ «تطهير الجيش الجزائري من العناصر الفرنسية»، الأمر الذي حز في نفس بوخروبة، فدبر له تهمة الخيانة للدولة الجزائرية، مما أسفر عن اعتقاله. وقد ذكر الشاذلي بن جديد، في مذكراته، أن بومدين اتصل به، وطلب منه إعدام قاسم شعباني. قال الشاذلي: «فأخذناه من السجن إلى الغابة التي كانت فرنسا تعدم فيها الجزائريين بوهران وأطلقنا عليه الرصاص وأعدمناه، في (3 نونبر 1964)، بأمر من رئيس الجمهورية بومدين».
لقد ظل العميل بومدين بعد انقلابه على صديقه الرئيس أحمد بن بلة في (19 يونيه 1963) وفيا لعمالته لفرنسا، وخادما مطيعا لقصر الإليزيه، وتلميذا نجيبا كرس كل وقته لتنزيل خطط باريس القاضية بتحويل الجوار الإقليمي إلى منطقة تابعة لـ «الجزائر الفرنسية»، ولم يكن الحل إلا «تشغيل» «الثروة الغازية»، من أجل تطويق دول الجوار، وعلى رأسها المغرب، وشن حرب استنزاف ضدها، وذلك باصطناع القلاقل وزرع الكيانات الوهمية والإنفاق عليها بسخاء.
لقد خان بومدين وضباطه الفرنسيون الثورة الجزائرية ورجالها، بل خانوا المغرب، وشنوا عليه أول حرب غادرة لم تتوقف حتى الآن، حين هاجموا «حاسي بيضا» وفكيك في أكتوبر 1963.. بل إن بومدين الذي بحث بكل ما أوتي من «سند فرنسي» لخلق بؤرة توتر في المنطقة لن يستفيد منها إلى فرنسا، حيث أرسل جنوده الذين خرجوا للتو من اقتتالهم مع رؤساء المناطق العسكرية المتمردة على «ضباط فرنسا»، فضلا عن مرتزقة كان يمولهم الرئيس الليبي معمر القدافي للهجوم على المواقع المغربية، في منطقة الزاك وفي المحبس وفي امغالة وفي أم ذريكة وفي الفرسية وفي جهات أخرى.. ورغم التفوق العسكري المغربي الواضح، فإن بومدين أصر على جحوده، وسخر كل الإمكانات من أجل تحقيق زعامة إقليمية فرنسية بغطاء جزائري.
لقد كان مخطط الجنرال ديغول هو إحداث فوضى في المنطقة، وتسميم العلاقات بين الشعوب المغاربية، حتى لا تنعم المستعمرات القديمة بالراحة .ولقد وجد في الهواري بومدين خير سند للانقضاض على الثورة الجزائرية وتحييد صناعها وتصفية قادتها، فاستحق بذلك لقب «المجاهد بلا ثورة» و«خائن رجال الثورة» و«عميل فرنسا». وهذا ما أكده بلعيد عبد السلام، في حوار أجرته معه الشروق أونلاين «نُشر في 31 أكتوبر 2018)، حيث قال إن المخطط الذي أعدّه ديغول مع زعيم «جماعة وجدة»، هواري بومدين قائد جيش الحدود، لتسريب مجموعة من جنود «لا كوست» إلى داخل جيش التحرير، كان خياراً «مبرمجاً وممنهجاً» لتطبيق مخططات فرنسا بعد رحيلها عن الجزائر، وقد قدّمهم بومدين على أنهم ضباط فارون من الجيش الفرنسي للمساهمة في تحرير البلاد، وأن الثورة بحاجة إلى خبرتهم وتجربتهم العسكرية!