قصة مدينة صوفيا، مع المنتزهات والحدائق لا يجب أن تروى فقط، بل يجب أن يفرض على المسؤولين بالمغرب سماعها، عسى أن تتم أنسنة مدن المغرب في المدى المتوسط.
للإمساك بالجمال الأخضر الذي يميز العاصمة البلغارية كان علي الوقوف على ذلك وتأمله من خلال بوابتين: البوابة الأولى من مقهى the corner، وهي فضاء (مطعم/مقهى)، يوجد في أعلى عمارة شاهقة بشارع Nicolai Yankov، أما البوابة الثانية فتتجلى في مقهى فندق جبل Vitosha بضاحية صوفيا، على مقربة من جهاز البث للإذاعةوالتلفزة البلغارية الذي يوجد في قمة الجبل.
أيا كانت البوابة التي يختارها المرء، فهناك حقيقة واحدة سيقف عندها الزائر، ألا وهي انتشار البساط الأخضر بصوفيا، لدرجة أن حصة الفرد بالعاصمة البلغارية تصل اليوم إلى 33 متر مربع لكل مواطن من المساحات الخضراء، علما أن منظمة الصحة العالمية لم تحدد سوى سقف 10 أمتار مربعة لكل مواطن(للمقارنة الدار البيضاء لا توفر سوى متر واحد من المساحات الخضراء لكل مواطن!!).
لكن الحظوة التي تتمتع بها صوفيا اليوم في الحدائق والمنتزهات لم تأت هكذا مجانا، بل بفضل معارك وصراعات انخرط فيها المجتمع المدني بصوفيا منذ انهيار جدار برلين وانهيار المعسكر السوفياتي عام 1989.
إذ بعد 1990 وقع تفكك في بنية الدولة البلغارية ودب الوهن في آليات الرقابة والضبط، بالنظر لخروج البلد من نظام الحزب الوحيد إلى نظام تعددي لم يألفه المجتمع ولم يتعود على ميكانيزماته. وبالموازاة مع ذلك ظهرت ببلغاريا طبقة من المنعشين العقاريين الكبار الذين استغلوا غياب وثائق التعمير "لينهشوا" كل مساحة فارغة لزرع العمارات ذات السكن الكثيف، خاصة وأن صوفيا بدأت تعرف توافد هجرة مكثفة من البادية والمدن الصغرى بسبب انهيار "الدولة الشيوعية الاجتماعية" وانتشار اابطالة آنذاك.
رغم هذا السطو الفاضح للأثرياء الجدد على المجالات الخضراء، لم يقو سكان صوفيا آنذاك على الاحتجاج، بالنظر لاستمرار الخوف من الدولة، بسبب ترسب عقلية الخوف منذ الحقبة السوفياتية.
لكن مع مرور الوقت بدأت تتلاشى عقلية الخوف، وبدأت بلغاريا تغازل الاتحاد الأوربي للانضمام إليه، وهو الانضمام الذي كان مشروطا بتوسيع هوامش الحرية وحقوق الإنسان من جهة، وتمكين مدينة صوفيا من وثائق التعمير لضبط الاختلالات الحضرية للتحكم في مجالها الترابي من جهة أخرى.
في عام 2000 بدأت تظهر معالم صحوة المجتمع المدني ضد نهش المساحات الخضراء بصوفيا لتحويلها لعمارات سكنية أو لمكاتب، وظهرت النواة الأولى لذلك بحي Mladost الذي شهد ميلاد أول حركة تمردية للنساء اللواتي انتفضن ضد ابتلاع حدائق الأطفال والملاعب والمجال الأخضر الذي اعتاد أبناؤهن اللعب فيه، فولدت من رحم هذه الحركة التمردية جمعية Mladost، تلتها جمعيات أخرى بالمقاطعات 24 التي تكون مدينة صوفيا.
وبحلول عام 2005 وصل عدد جمعيات الأحياء المناصرة للبيئة بصوفيا إلى 40 جمعية. وتم تشبيك هذه الجمعيات في كونفدرالية تحمل اسم" مواطنون من أجل مدينة خضراء بصوفيا"، قامت بإعداد "كتاب أخضر حول صوفيا" للترافع من أجله وللضغط على السلطة الحكومية والبلدية لاعتماده.
وحسب الباحثة السوسيولوجية البلغارية Iskra Dandolova، فإن المنعشين العقاريين التهموا مابين 1990 و 2005 مامجموعه 5500 هكتار من المساحات الخضراء ( أي ما يعادل ثلث المساحة الخضراء بصوفيا)، بفعل وثائق مزورة أو بفعل ضبابية نصوص التعمير أو بفعل تواطؤ مسؤولين بالبلدية.
لكن مع تقديم بلغاريا لطلب الانضمام للاتحاد الأوربي عام 1999، وبسبب ضغط المجتمع المدني، وبعد تغيير هرم السلطة ببلدية صوفيا عام 2005 بحلول Boiko Borrissov كعمدة جديد للمدينة، تم إعطاء الإذن بإعداد التصميم المديري الجديد للتعمير بصوفيا عام 2007.
هذا التصميم المديري نص على وجوب تمكين صوفيا من كل المقومات لتكون عاصمة جهوية في الفضاء الأوربي، فتم إيقاف التمدد العشوائي للعاصمة لبلغاربة من جهة، وحماية الاحتياطي العقاري بشمال المدينة من يد العابثين ومن شركات العقار من جهة ثانية.
وهاهي صوفيا تجني اليوم ثمار كفاح جمعياتها السكنية وعقلانية مخططيها الحضريين. فبعد أن كانت صوفيا في نهاية الحقبة الشيوعية تتوفر على 25 متر مربع من المساحات الخضراء لكل مواطن، نجدها اليوم، لم تسترجع ما "نهشه" كبار المنعشبن فحسب، بل وتتباهى بتوفير 33 متر مربع لكل مواطن من المساحات الخضراء. وبعد أن كانت صوفيا لا تتوفر سوى على ثلاثة منتزهات كبرى في نهاية السبعينات من القرن العشرين ( واحد بجنوب المدينة وآخر بغربها وثالث بشمالها)، هاهي صوفيا تعجز اليوم عن إحصاء المنتزهات والحدائق والغابات الحضرية التي وفرتها لسكانها البالغ عددهم 1.300.000 نسمة.
يا منتخبي المغرب ووزرائه وبرلمانييه..اقبسوا نموذج مدينة صوفيا لعلكم تفلحون !
الزميل عبد الرحيم أريري في مقهى بجبل vitosha ومقهى the corner بمدينة صوفيا