أبو بكر القادري: العالم والمؤرخ والمربي ...

أبو بكر القادري: العالم والمؤرخ والمربي ... أبو بكر القادري

رجل بمواصفات عدة :

في حلقة جديدة من برنامجه الأسبوعي " مدارات " بالإذاعة الوطنية من الرباط، قدم الكاتب الإعلامي عبد الإله التهاني إضاءات حول مسار العالم والمؤرخ المرحوم أبي بكر القادري استهلها بالإشارة إلى أن المتحدث يحار من أين يبدأ كلامه، وهو يستعرض سيرة العلامة المرحوم أبي بكر القادري. لان في شخصيته اجتمعت عدة صفات. فهو العالم المتضلع في شؤون العقيدة، وهو السياسي الحكيم، والخطيب المفوه، وهو الكاتب البليغ والمعلق الفصيح .

كما وصفه بأنه المربي الذي اختار تربية وتعليم الأجيال، كرسالة مقدسة، وكمهنة فضلى، فلم يغيرها أبدا بمنصب أو جاه، أو مال، أو سلطة، مما بوأه مكانة خاصة، وقبولا مميزا في الساحة الوطنية، ولدى كل الحساسيات الفكرية في المغرب، وأن نفس الشيء، يقال عن مكانته في المنتديات والمحافل العربية والإسلامية.

 

أثر الاسرة والتنشئة في مسار القادري :

وأضاف بأن المرحوم أبا بكر القادري الذي ولد عام 1914، ينتسب إلى أسرة سَلَاوِيَّةٍ توفرت لها صفات الوجاهة والعلم والصّلاح، وحظيت بالتقدير والتوقير لدى مختلف فئات المجتمع السّلاوي، بل وخارج مدينة سلا.

وأشار بخصوص تنشئته، أنه تلقى تعليمه الاولي بمدينته سلا في قواعد الدين واللغة العربية، وكان أساتذته من كبار شيوخ زمانه، ومنهم أحمد بنعبد النبي، وزين العابدين بن عبود، ومحمد بلعربي العلوي، وأحمد الجريري، ومولاي الشريف القادري غيرهم.

 

من العصامية إلى الريادة :

في سياق حديثه عن عصامية أبي بكر القادري، أوضح بأن الرجل كان قدره أن يطرد من المدرسة وهو في بداية شبابه، مما سيقوي لديه روح العصامية، من خلال الاعتماد على نفسه لتكوين نفسه، فكان الكتاب هو مدرسته الحقيقية في الحياة .

واستحضر الاعلامي عبدالاله التهاني تواريخ لها دلالة مهمة، في تلك المرحلة المبكرة من سيرة أبي بكر القادري، مثل تأسيسه عام 1932 لجمعية المحافظة على القرآن الكريم بمدينة سلا، حيث كان هدفه من ذلك مزدوجا، أي دينيا ووطنيا.

وأبرز أنه خلال هذه الفترة أيضا، أقدم عام 1933، وهو شاب في سن العشرين من عمره، بتأسيس مدرسة النهضة التي كانت معلمة رائدة في تاريخ التعليم الحر بمدينة سلا، خلال حقبة الحماية الفرنسية، وامتد دورها إلى ما بعد الاستقلال، وبأنها كانت تنافس مدارس التعليم الرسمي ، على مستوى جودة المناهج والبرامج التربوية، إضافة إلى خلفيتها الوطنية التي كانت تؤطر عملها ، بهدف صيانة الهوية الوطنية ، تنمية الشعور الوطني لدى الناشئة من تلامذتها، حتى أصبحت منارة علمية مشعة، تكون الأجيال على العلم والتشبث والاعتزاز بالقيم الوطنية والدينية.

كما أشار إلى الريادة المتميزة لابي بكر القادري، والتي تجلت في إقدامه كذلك على تأسيس مدرسة خاصة بتعليم الفتيات في مدينة سلا، هي مدرسة الأميرة لالة عائشة للبنات.

واعتبر الأستاذ عبد الإله التهاني أن هذه المبادرات النوعية التي قام بها العلامة أبو بكر القادري، كانت تنبىء عن ملامح شخصيته الوطنية الطموحة، وهي التي ستقوده ليدخل معترك العمل الوطني، في التصدي لمخططات إدارة الحماية الفرنسية، ويصبح واحدا من القادة المؤسسين لكتلة العمل الوطني سنة 1934، ممن رفعوا في وجه الإدارة الفرنسية ما عرف بمطالب الشعب المغربي الإصلاحية المستعجلة، وبذلك

سيصبح المرحوم أبي بكر القادري، وجها بارزا، في قيادة كل التنظيمات الوطنية التي ستنشأ، وتشرع في التصدي لسياسات أجهزة الحماية الفرنسية والإسبانية، دفاعا عن هوية المغرب وتمهيدا للمطالبة بالاستقلال، وهو ما تم فعلا، إذ كان القادري من صناع وثيقة المطالبة باستقلال المغرب، التي أعلنتها الحركة الوطنية في يناير من العام 1944، بتنسيق مع الملك المناضل المغفور له محمد الخامس.

وعن نصيبه الكبير من أذى الاستعمار الفرنسي، أوضح معد ومقدم البرنامج أن المرحوم أبا بكر القادري، نال الكثير من التنكيل والعقاب، على غرار ما ناله رفاقه في الكفاح الوطني، حيث سجن ستة مرات على الأقل خلال فترات متفرقة ، ما بين سنوات 1935 و1955 .

 

ثنائية العلم والوطنية :

وبخصوص الجانب العلمي في شخصية أبي بكر القادري، شدد معد البرنامج، أنه لم يكن يضاهي ما صرفه هذا العالم في مجال العمل الوطني والتربوي، وفي واجهات العمل المدني والجمعوي، وعلى مستوى نشاطاته العديدة خارج المغرب، إلا ما كان يخصصه من وقت طويل للكتابة والتأليف، مبرزا أن المرحوم القادري جال بقلمه في مواضع شتى، وخاض في مجالات مختلفة، ولكنها بالنسبة إليه كانت مجالات متكاملة، يسعف ويكمل بعضها البعض.

وعن كتاباته، أفاد بأن المرحوم أبي بكر القادري كتب في مجال السياسة، والفكر الديني والدراسات الإسلامية، والفكر الاجتماعي. وأنه ألف الشيء الكثير أيضا في باب الكتابة التاريخية، وتراجم الأعلام، من خلال ما وثقه من حياة وفكر وإسهامات العديد من رجالات المغرب.

كما أرخ كذلك لمراحل مهمة من تاريخ الحركة الوطنية المغربية، من خلال تدوين ما عاشه وعاينه، أو اطلع عليه بالدليل الموثق .

وأكد عبدالاله التهاني أن روح المربي ظلت تسكن العلامة أبا بكر القاري، إذ كان لا يتوقف عن كتابة مقالاته ذات الأبعاد التوجيهية، والغايات والمقاصد التربوية، وخاصة تركيزه المستمر على بث القيم الصالحة والمبادئ الأخلاقية السامية، كالفضيلة والورع والتقوى، والتعاون على الخير، والإيمان العميق، والسلوك الديني السليم، الخالي من الشوائب والقائم على العقيدة الإسلامية السمحة، البعيدة عن التعصب والتشدد، والمرتكزة على التسامح والوسطية ونبذ الكراهية.

وذكر في هذا السياق، بأن العلامة المؤرخ القادري رحمه الله، خلّف رصيدا هاما من الكتابات المتميزة في هذا الباب .

 

الشاهد على تاريخ الحركة الوطنية الحديثة :

وأوضح عبدالاله التهاني أن المرحوم القادري، أولى أهمية كبيرة لتدوين تاريخ الحركة الوطنية المغربية من خلال ما عاشه وشارك فيه من أحداث ومواقف، وأنه لهذه الغاية أمضى وقتا طويلا وبذل جهدا متواصلا، من أجل تأليف مشروعه التأريخي الضخم ، المتمثل في كتابه الذي أصدره تحت عنوان : " مذكراتي في الحركة الوطنية المغربية" ، وهو الكتاب الذي وضعه في ستة أجزاء ، حيث شرح في مقدمة الجزء الأول من كتابه هذا، غايته من تدوين مذكراته حول تاريخ الحركة الوطنية المغربية، مشيرا إلى الصعوبات التي تعترض هذا التدوين، لعدة أسباب استعرضها بتفصيل، ومنها عدم مساهمة من عاشوا تلك الفترة أوصنعوا أحداثها في كتابة مذكراتهم، وعدم تدوين الوقائع في حينه، وضياع العديد من الوثائق ، بسبب الخوف من وصول إدارة الحماية إليها، وغير ذلك من الاسباب .

واستطرد الزميل عبد الإله التهاني، موضحا بأنه خلال سنة 1997، أصدر المرحوم أبو بكر القادري الجزء الثاني من مذكراته، وفيه تناول بالتفصيل الكثير من الأحداث والوقائع والمعطيات التي ميزت عمل وكفاح الحركة الوطنية، وتحديدا من العام 1941 إلى 1945، ولاسيما منها الظروف والسياقات السياسية، التي أدت إلى إعلان وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، كحدث مفصلي في تاريخ، مشيرا إلى الكفاح من

أجل استقلال المغرب، علما أن المرحوم أبا بكر القادري في هذا الجزء الضخم، بادر إلى القيام ببعض الإضافات والاستدراكات، في شأن الأحداث التي سبق له أن تناولها في الجزء الأول من مذكراته، حول نضال وعمل الحركة الوطنية المغربية الحديثة.

وعند حديثه عن القسم الأول من الجزء الثالث من هذه المذكرات والصادر عام 2000، أشار عبدالاله التهاني إلى أن المرحوم أبا بكر القادري، ركز فيه على مشروع بناء المغرب العربي، من خلال التوسع في الحديث عن مؤتمر طنجة لوحدة المغرب العربي، والذي انعقد عام 1958 بمدينة طنجة. كما أوضح معد البرنامج أن المرحوم القادري

في القسم الثاني من هذا الجزء الثالث والصادر سنة 2003، تناول الحالة السياسية العامة للمغرب في فجر الاستقلال، وتحديات بناء مؤسسات الدولة المغربية المستقلة. أما القسم الاول من الجزء الرابع لمذكراته، فقد وضع له عنوانا فرعيا سماه (مع ثلاثة ملوك علويين: محمد الخامس، الحسن الثاني، محمد السادس)، وهو يضم عددا من المراسلات والوثائق والخطب المتعلقة بالتاريخ السياسي الحديث للمغرب، وضمنها معارك الوحدة الترابية للبلاد، بينما اشتمل القسم الثاني من هذا الجزء على خطب ومداخلات ودراسات للمرحوم أبي بكر القادري، كتبها في مناسبات مختلفة، وتتعلق اساسا بالإسلام وتاريخ المغرب والهوية المغربية، وغير ذلك.

وفي ذات السياق، توقف عبدالاله التهاني عند الجزء الخامس من مذكرات القادري، والذي عاد فيه إلى تناول الازمة المغربية الفرنسية مطلع الخمسينات من القرن الماضي، مستعرضا سياسة المقيمين العامين الفرنسيين بالمغرب، وتآمر الحماية الفرنسية ضد العرش منذ 1944، مع نظرة على فترة ولاية المقيم العام جوان وغير ذلك من الاحداث المهمة.

 

مزية التوثيق عند القادري:

وتكملة للحديث في هذا الجانب التوثيقي، توقف عبدالاله التهاني في هذه الحلقة، عند سلسلة "رجال عرفتهم " التي أصدرها المرحوم القادري، وتجاوزت خمسة عشر كتابا، وثق في كل جزء منها، سيرة العديد من أعلام المغرب الحديث، ممن عرفهم وجايلهم وتعامل معهم، بدءا من الملكين المرحومين محمد الخامس والحسن الثاني، مرورا بزعماء الحركة الوطنية، وصولا إلى علماء ومفكرين ومصلحين، وديبلوماسيين بارزين وشخصيات عربية وإسلامية .

وارتباطا بمؤلفات المرحوم أبي بكر القادري التي تجاوزت أربعين إصدارا، قدم عبدالاله التهاني إضاءات عن البعض منها، من قبيل كتابه "قصة النهضة" الذي روى فيه القادري بتفصيل وتشويق قصة إنشاء مدرسة النهضة بسلا سنة 1933، وتطورها وأثرها على الاجيال، وما رافق ذلك المشروع التربوي والتعليمي الحر من تحديات، بسبب خلفيته الوطنية المناهضة لسياسة المستعمر الفرنسي وقتها.

كما قدم لمحة عن مؤلفاته الاخرى التي كتبها في باب أدب الرحلة، مدونا فيها مشاهداته وجولاته ورحلاته، في عدد من أقطار العالم، ومن ذلك كتبه التالية: (مشاهدات في الولايات المتحدة الامريكية / ستة أيام في اليابان / مذكرات إفريقية وأسيوية / رحلاتي الحجازية / في سبيل وحدة إسلامية) .

وللتعريف بخاصية التنوع التي ميزت انشغالات وكتابات هذا العالم، استعرض عبدالاله التهاني سلسلة الكتب التي ألفها هذا المرحوم القادري في قضايا ومجالات أخرى مهمة، وخاصة منها كتبه التالية:

( مبادئ وأصول التشريع الاسلامي / المجتمع الاسلامي في مواجهة التحديات الحضارية الحديثة/ محمد الخامس : ملامح من حياته وصور من جهاده / أحمد بلافريج : ملامح من سيرته ونماذج من إنتاجه / سعيد حجي : حياته ونشاطه الثقافي والسياسي/ قاسم الزهيري وإخاء سبعين سنة: صفحات من سيرته وكفاحه / محمد الفاسي كما عرفته في المجالين الثقافي والسياسي/ محمد حصار : ترجمته وإنتاجه وما قيل فيه / الحاج علي زنيبر : رائد من أعلام المغرب الحديث / جولات في رحاب النبوة / من وحي الايمان / المغرب والقضية الفلسطينية منذ عهد صلاح الدين إلى إعلان الدولة الفلسطينية، وسواها من تآليفه).

ولاحظ عبدالاله التهاني في ختام حديثه عن شخصية وكتابات أبي بكر القادري، أن لهذا الرجل خاصية لا يشترك معه فيها، إلا قلة من العلماء من أبناء جيله، وهي أنه بقدر غزارة ما أنتجه من كتابات، بقدر ما كان حريصا على نشرها وإصدارها في كتب، وعلى نشر وإخراج ما توفر لديه من أرشيف غني بالوثائق والصور والمراسلات، تخص التاريخ الحديث للمغرب..