أوراق تراثية من فن التبوريدة أو نوستالجيا "فْرَاجَةْ الْفَرَّادِي" بالمواسم المغربية (الحلقة 1)

أوراق تراثية من فن التبوريدة أو نوستالجيا "فْرَاجَةْ الْفَرَّادِي" بالمواسم المغربية (الحلقة 1) مشاهد وصور تخزّنها الذاكرة بكل تفاصيلها التي ستظل راسخة في أذهاننا ولن يطالها النسيان أبدا

من المعلوم أن حضور الفرس والفارس في مواضيع تغنّت بها العيطة المغربية قد تم توثيقه كمظهر من مظاهر الدفاع عن الأرض والعرض شفويا، وتناولت الخيل والبارود أيضا كتعبير عن الشهامة والشجاعة والفرح والفرجة من خلال تراث فن التبوريدة.

في هذا السياق يهمنا استحضار بعض المتون التي تغنت بـ "فْرَاجَةْ" ما يطلق عليه إسم "الْفَرَّادِي" المرتبط بفن التّْبَوْرِيدَةْ. حيث جاء في عيطة "تْكَبَّتْ الْخَيْلْ عْلَى الْخَيْلْ" متن يقول: (الْفَرَّادِي وَحْدُو غَادِي). بالإضافة إلى متن: (لَعْدُو يَا لَعْدُو. لُوحْ سْنَاحَكْ أَجِي نْفَرْدُو) الذي ورد في سُوسَةْ عيطة "دَامِي"، ونفس الشيء ورد في سُوسَةْ عيطة "الْعَمَّالَةْ" التي قال فيها الناظم: (عْلَاهْ أَلَالَّةْ فَرَّدْ وَاجِي. مَا حَضْرُوا عَلَّامَةْ الْيُومْ).

في الحلقة الأولى من أوراقنا التراثية ذات الصلة بفنون التّْبَوْرِيدَةْ بالمواسم، تتفرد جريدة "أنفاس بريس" بالكتابة في موضوع طقوس وحَرَكَاتْ لَعِبْ "فْرَاجَةْ الْفَرَّادِي" على صهوة الخيول بالبارود، التي تتميز بها الطريقة الناصرية والتي يتقاسم ممارستها فرسان قبائل أحمر وعبدة ودكالة دون غيرهم. حيث سنستضيف في الحلقة الثانية الفارس/الرّامي عبد الحق خشان (من أصول دكالية) للحديث عن فرجة "الْفَرَّادِي" وكيف تعلق بها وبطقوسها التي أضحت جزء أساسي من هوايته للفروسية التقليدية إلى جانب القنص والصيد بالسلوقي.

قال الفارس وشاعر الملحون الزجال محمد الكزولي في قصيدة بعنوان: "تَارَامِيتْ" من ديوانه الموسوم بـ "تَارَامِيتْ"

(دَاخْلْتْ عْلِيكْ بْتَارَامِيتْ والَفْحُولْ الْحَايْلَةْ

حَيَّاحَةْ واهْلْ الجّْعَابْ الصَيَّادَةْ

دَاخْلْتْ عْلِيكْ بْشْيُوخْ الْبَارُودْ والْخَيْلْ الصَّايْلَةْ

وُفَرْسَانْ احْمَرْ الْفْحُولْ الفَرَّادَا

دُوكْ الشّْدَادْ الفَرَّادَا

الْحَايْلِينْ فِـ التّْسْبِيتَةْ وُاللّْعْبْ بِالتّْفْرَادْ

مْخَلِّينْ الْعَادَةْ غَادَا

عَادَةْ فِيهَا لْخْطَارْ؛ فِيهَا لَمْجَابْدَةْ والْعْنَادْ)

وقال أيضا في مقطع من قصيدة: "الطّريقة النّاصرية"، من ديوانه الشعري الموسوم بـ "شْيَاخْةْ الرْكُوبْ":

(شُوفْ التّْسْبِيتَةْ مَعْلَاهَا

اِلَى كَانْ الْفَارِسْ نَاصَبْ، وْ مْزَيّْغَاهْ الْعَدَّةْ

شُوفْ التّْبْيِينَةْ مَحْلَاهَا

فَارَسْهَا مَا عْتَقْ صْرَاعْ، وَلَا فَرّْطْ فِي عُـﯕْدَةْ

شُوفْ الْخَرْطَةْ مِيزَانْ

بِينْ الْمُكَحْلَةْ وُ الصّْرَاعْ

شُوفْ الْـﯕَرْنَةْ مِيزَانْ

بِينْ الْمَرْفَـﯕْ وُ الدّْرَاعْ

وِيلَا بْغِيتِي النَّاصِرِيَّةْ

وُ تْمَتّْعْ لْبْصَارْ وُ تْرَيّْحْ الرُّوحْ؛ اتْفَرّْجْ فَرْكُوبْ الْفَرَّادِي

تَمَّا تْشُوفْ لْفْرَاجَةْ حَيَّةْ

حِيثْ الْفَرَّادِي مَا يْقْبْلْ مْلْيُوحْ؛ مَا يَدْخُلْ لُو بُوجَادِي).

نوستالجيا مشاهد من ذاكرة مؤسسة الْمُوسَمْ

مَنْ مِنَّا، منذ أن وطأة قدماه تربة محارك التّْبَوْرِيدَةْ بمواسم بوادينا وقرانا المغربية، وتسرّبت إلى رئته رائحة البارود ونقع غبار السّنابك، لم يسحره جمال الخيول الجامحة التي تدكّ الأرض دكًّا بسنابك الخير، و لم يسلب عقله صهيلها الذي يعلو على "أنكر الأصوات" ويكسّر سكون تعاقب الليل والنهار؟

مَنْ مِنَّا، لم يفتتن بألوان "لِيـﯕَةْ" الخيول المتنوعة باختلاف سلالتها ومجالها الجغرافي "الْمَرْﯕَدْ"، وأنواعها وصفاتها وهي ترقص بأقدامها مبرزة رشاقة بدنها وخفة حركاتها الجميلة، تلك المخلوقات الذكية التي تستجيب وتنصاع للأوفياء من مربيها وراكبها الذين يحترمون صهوتها ويحافظون على نسل أنسابها وأصولها، ويقدّرون أنفتها وكرامتها وعزّتها وسط محارك الخير والخيل؟.

مَنْ مِنَّا، لم تتعلق شِغافُ قلبه حبّاً بخيول وفرسان أرض بْلَادِي، المدثّرين بلباسهم وأزيائهم التقليدية المصنوعة من نسيج صوف أغنام الزّريبة (جلابيب وسلاهم وعمامات) والمتأبّطين سيوفهم وخناجرهم الفضيّة، ودلائل الخيرات المشدودة بفتائل الحرير، والماسكين بقبضتهم على زناد "لَمْكَاحَلْ" المرصّعة بمعدن "النُّقْرَةْ"؟

مَنْ مِنَّا، لم تأسره ندهة عَلَّامْ الْخَيْلْ، وصيحته المدوّية إعلانا لطلقة بارود الفرح الموسوم بزغاريد النّساء الحرّات من أمهاتنا المكافحات، الّلواتي بصمن على أعذب المردّدات الغنائية التي تمجّد شجاعة الفرسان، وتحتفين بدويّ البارود على "ﯕَصَاصْ" الخيل المزيّنة بسروجها الأصيلة التي تبهر النّاظرين؟

مَنْ مِنَّا، لم يتلذّذ ويتذوّق طيب المقام وسط خيمة عَلَّامْ الْخَيْلْ، وهو يوزّع بكرم حاتمي ابتسامة الفرح والسعادة على فرسانه ومرافقيه ومساعديه، ويردّ السّلام والتّحية بأحسن منها على الضّيوف المتحلّقين حول صواني الشاي وصحون الحلويات والمكسرات، في انتظار تقاسم وجبة الطّعام الشّهية التي تعدّها طبّاخة السّربة (أُمُّ الْفُرْسَانْ) بيديها الدّسمتين؟

نعم، كلنا نحن أبناء البوادي والقرى النّائية هنا وهناك، عشنا وكبرنا وسط هذه الأجواء الاحتفالية والفُرْجَوِيَة، ورافقنا آبائنا وأمهاتنا وشباب القبيلة والدوّار للإستمتاع بسنابك الخيل وبارود الفرسان الذي ينتشر دخانه الأسود في سماء الْمُوسَمْ معلنا ساعة الفرح.

الطريقة الناصرية تتفرد بطقس وحركات فرجة "الْفَرَّادِي"

إن الحديث عن الخيل والفرسان في علاقة بفنون ورياضة "التّْبَوْرِيدَةْ" يحيلنا بلا شكّ مباشرة على أوراق وصفحات حضارتنا وتراثنا وموروثنا الثقافي والتاريخي العريق للأمة المغربية، والذي يرجع بنا إلى حقبة ظهور الأسلحة النّارية، حيث نستحضر في هذا السياق الكثير من التقاليد والعادات والطقوس والأعراف كمكون أساسي لهذا الموروث التراثي المذهل الذي صنف ضمن قائمة التراث الإنساني اللامادي .

عدة مشاهد وصور تخزّنها الذاكرة بكل تفاصيلها التي ستظل راسخة في أذهاننا ولن يطالها النسيان أبدا، مما يستوجب استحضارها اليوم ضمن موروثنا التراثي والثقافي الشعبي في سياق حديثنا عن كل أوجه اختلاف العديد من ألعاب فنون الفرجة ذات الصّلة بفنون التبوريدة المغربية التي تنتمي طبعا لعدة مدارس وطرق مختلفة.

إنها مشاهد وصور دّالة على شهامة وشجاعة فرسان قبيلة أحمر، الذين ورثوا وتمرّسوا واشتهروا رفقة زملائهم من فرسان مناطق دكالة وعبدة، من خلال إتقانهم لطقس استعراض لوحات "فْرَاجَةْ الْفَرَّادِي" أثناء إحيائهم للمواسم السنوية ذات الصّلة، والتي كانت محطة أساسية في علاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية والدينية والبيئية والإنسانية.

مهارات استعراضية تمتاز بها لوحات فرجة "الْفَرَّادِي"

إن الفارس "الْبَّارْدِي" الذي يؤدي طقوس لوحات "فُرْاجَةْ الْفَرَّادِي" حسب معرفتنا الميدانية، من المفروض فيه أن يتملّك عدّة مهارات رياضية واستعراضية، وتمكّنه أيضا من القيّام بعدة حركات وألعاب فوق صهوة حصانه، دون التّفريط في أداء تقنيات الإمساك بـ "الّْلجَامْ والْمُكَحْلَةْ" بالموازاة مع سرعة ركض الفرس المدرّب أثناء تقديم العروض الفرجوية.

من المعلوم أن "فْرَاجَةْ الْفَرَّادِي" تبقى استثناء يتفرد ويتميزّ به فرسان الطّريقة النّاصرية التي مازالت تحافظ عليها عدة مناطق بكل من قبائل أحمر ودكالة وعبدة. حيث تغنت بها العديد من القطع الغنائية لفن العيطة وأيضا أغانينا الشعبية كعلامة بارزة في ميدان ركوب الخيل.

مرافعة الرامي يونس عاشق عن "الْفَرَّادِي"

في هذا السياق أورد الرّامي يونس عاشق في إحدى مرافعاته عن موروث تراث التبوريدة مؤكدا بقوله: "إن لِلتّْبَوْرِيدَةْ أوجه عديدة للفرجة، تتنوع حسب تنوع طرقها، وكذلك حسب المناطق. ومن بين هذه الأوجه والذي في طريقه إلى الإندثار هو ما يسمى بـ "الْفَرَّادِي" وهذا النوع من الفرجة هو حكر على الطريقة النّاصرية التي تتبناها كل من قبائل أحمر وعبدة ودكالة".

ووصف الرامي يونس عاشق في هذا السياق استعراض فْرَاجَةْ الْفَرَّادِي بقوله: "ترتكز فرجة (الْفَرَّادِي) على خروج فارس أو إثنين، وأحيانا إلى أربع فرسان أشدّاء متمكّنين، لاستعراض كل ما لديهم من مهارات في الفروسية وفي الّلعب بالبنادق".

ومن لوحات الفرجة المعروفة في لغة الخيل والبارود لدى فرسان التبوريدة الناصرية خلال تقديم لوحات طقس "الْفَرَّادِي" نذكر حركات ومهارات ما كان يطلق عليه فرسان الطريقة الناصرية بـ "التْسَكْوِيطَ" و "الْعَشَّةْ" و "التَّكْفِينَةْ" و "الْقَلْبَةْ" و "الْوَقْفَةْ /التَّسْبِيتَةْ".

ما هي تفاصيل ومعاني هذه اللوحات الاستعراضية:

ـ "التْسَكْوِيطْ": هو مجموعة من الحركات البهلوانية السّريعة التي يقوم بها الفارس بيده حيث يحول مُكَحْلَة البارود إلى لعبة يستخدمها بطريقة مذهلة فوق صهوة الجواد دون إسقاطها من يده.

ـ "الْعَشَّةْ": وترتبط بوضع هدف عبارة عن كومة قشّ، أو جرة طينية مملوءة بالماء، يتوجب على الفارس إصابتها بالبارود من فوق صهوة الحصان وهو في أقصى سرعته.

ـ "التَّكْفِينَةْ": وهي طريقة معقدة شيئا ما، وترتكز على إطلاق النار باتجاه الأرض، وإسناد الرأس على عنق الحصان، لكن طريقة الإمساك بالبندقية هي محور الصعوبة في هذا الصّنف من الفرجة، حيث يتوجب على الفارس الإمساك بها بالقبضة اليسرى بشكل ملتف ثم عليه أن يضغط على الزناد بالإبهام، عكس الطريقة العادية التي تتم بالسبّابة.

ـ "الْقَلْبَةْ": وهي أن يؤدي الفارس كل شروط حركات ركوب الخيل على الطريقة الناصرية من "مَدَّةْ" و "تَبْيِينَةْ" و "خَرْطَةْ" ثم "كَرْنَةْ" لكنه حينما يريد إطلاق النار عوض قيامه بحركة "التَّدْرِيعَةْ" والتصويب فوق أذني الحصان فإنه يتوجب عليه أن يسند ظهره على مقدمة السّرج "الْقَرْبُوصْ" وأن يطلق النار ورائه.

ـ "الْوَقْفَةْ / التَّسْبِيتَةْ"" : وهي أصعب أوجه فرجة "الْفَرَّادِي" و أخطرها استعراضا، حيث أن هناك قلة قليلة من الفرسان من يتقنها. ويتوجب على ممارسها أن يكون على انسجام تام مع حصانه، ثم إن على الحصان أن يكون متقدما في السّن، وقد خبر راكبه وكذلك لم يعد يتأثر بضربات اللّجام في فمه. وترتكز الوقفة على صهوة الحصان، على نزع القدمين من الركاب (موضع القدمين في السّرج) والوقوف بشكل منتصب فوق ظهر حصانه (كل هذا وهو يؤدي كل شروط الطريقة الناصرية المذكورة تزامنا مع ركض الحصان بسرعة).

يتبع