محكيات بطعم الألم والأمل من سيرة رحلة الفنان بوشعيب الجديدي الفنية إلى فرنسا (الحلقة 4)

محكيات بطعم الألم والأمل من سيرة رحلة الفنان بوشعيب الجديدي الفنية إلى فرنسا (الحلقة 4) الفنان بوشعيب الجديدي مع مجموعة من الموسيقيين بفرنسا
بعد أن حكى الفنان بوشعيب ناجد الجديدي لجريدة "أنفاس بريس" في الحلقات السابقة من هذه السلسلة عن حقيقة سبب نزول كتابة نص أغنية (تْزَوَّجْ مَا قَالْهَا لِيَّا)، وكيف تمرد على موقف والده "الطّْرَابْشِي" بخصوص عشقه للموسيقي والغناء رغم المعاناة. وانقطاعه عن الدراسة، ورفضه العمل في بعض ورشات تعلم المهن والحرف. 
لقد غصنا مع الفنان بوشعيب الجديدي وسط أمواج بحر بدايات سيرة حكايته الفنية، وكيف تمكن من تملك ناصية العزف والغناء والطرب. انتهاء بصداقته مع عامل إقليم الجديدة آنذاك بفعل علو كعبه الفني رغم حداثة سنه. حيث سنسافر مع القراء في الحلقة الرابعة في رحلة نفس الفنان للديار الفرنسية باحثا عن العمل رفقة خمسة موسيقيين من أصدقائه. فكيف سينتهي به حال المقام هناك في بلاد الغربة؟.

حلم رحلة فرنسا يتحقق
بعد انتهاء حفل افتتاح فندق دكالة بمدينة الجديدة بحضور عامل الإقليم الشريف مولاي العربي الوزاني صحبة وزير السياحة آنذاك، تحقق للفنان بوشعيب ناجد حلم الحصول على خمس جوازات سفر في ظرف 24 ساعة، لكن كانت مشروطة بمدة محددة لا تتجاوز السنة، وتحقق له ذلك بفعل علو كعبه على مستوى أخلاقه وسلوكه، فضلا عن موهبته الفنية عزفا وأداء، وإتقانه الغناء وحفظ أغلب القطع الغنائية الطربية الشرقية والعربية والمغربية الأصيلة علاوة على تمكنه من الغناء الشعبي.
استعد الفنان بوشعيب للسفر رفقة أصدقائه الموسيقيين إلى فرنسا عبر القطار، بعد أن رتبوا أغراضهم وجمعوا حقائبهم، واتفقوا على المبلغ المالي الذي سيوفرونه لهذا الغرض، وكان كل واحد منهم يفكر في عالمه الجديد بديار الغربة ويخطط لمشواره الجديد. وكيف سيكون العمل الفني هناك، خصوصا أنه لم يسبق لأي فرد منهم أن سافر خارج المغرب، باستثناء أحد أفراد المجموعة (ن/م) الذي أخبرهم بأن له علاقات بفرنسا وسبق أن اشتغل هناك، وهو الذي كان صاحب فكرة الهجرة للعمل، حيث كان يحفزهم على ذلك إلى أن استجاب عامل الإقليم لطلبهم بعد أن أقنعوه أنهم سيسافرون من أجل السياحة والتجوال لا غير.

 
نوستالجيا يوم الميعاد لتحقيق الحلم
في يوم الميعاد كان مبلغ الرحلة ومصاريف العشرة بفرنسا قد تم توفيرها، حيث سبق الاتفاق على تخصيص 2000,00 درهم للفرد خارج مصاريف النقل عبر الباخرة من طنجة نحو إسبانيا، وعلى متن القطار من هناك إلى فرنسا. كانت الرحلة ممتعة ومغرية خصوصا أن السفر على متن القطار يضمن مشاهدات عدة أماكن ومناطق ومجالات جغرافية وطبيعية، وتجمعات سكانية ومعمار بهندسة مدهشة إلى حين أن توقفت الرحلة بالعاصمة الفرنسية باريس.
 كان من تزعم الرحلة الفنان الموسيقي (ن/م) صاحب فكرة الهجرة خارج الديار الفرنسية واثقا من نفسه، بحكم أنه يعرف مكان الضيافة والاستقرار مؤقتا عند إحدى السيدات، مما خفف من ضغط الدهشة والإنبهار وسط عالمهم الحضاري الجديد بعاصمة الأنوار.

 
الزعيم الضرورة (ن/م) يشهر ورقة الرّيِّاسَةْ
لم يفت الفنان بوشعيب ناجد الجديدي أن يستحضر في حكيه عن الرحلة الأولى في حياته خارج الوطن، ما بدر من الفنان (ن/م) صاحب فكرة الهجرة للخارج، حيث مباشرة بعد تحرك عجلات القطار على السكة الحديدية من الدار البيضاء نحو طنجة، فاتحه آنذاك في موضوع "القيادة/الزعامة" بفرنسا، وأكد له أن شرط نجاح المجموعة وضمان استقرارها الفني بفرنسا يستوجب أن يتحمل هو شخصيا مهمة رئيس الفرقة والناطق الرسمي باسمها خلال الوصول والإقامة بديار الغربة، بعد أن كان بوشعيب رئيسا للفرقة بمدينة الجديدة. 
"شُوفْ سِّي بُوشْعَيْبْ. فِعْلًا كُنْتَ أَنْتَ رَئِيسْ الْفِرْقَةْ بِالجْدِيدَةْ. وأَيَّ شَيْءٍ كُنْتَ تَطْلُبُهُ مِنَّا كُنَّا نُنَفِّدُهُ. لَكِنْ، ابْتِدَاءً مِنَ الْيَوْمْ سَأَكُونْ أَنَا الرَّئِيسْ والَقَائِدْ. وأَيَّ شَيْءٍ طَلَبْتُهْ مِنْكُمْ تْنَفْدُوهْ بْلَا هَضْرَةْ". يقول الزعيم الضرورة (ن/م). فكان جواب الفنان بوشعيب: "نَعَمْ. سَتَكُونُ أَنْتَ الرَّئِيسْ. والشيء الذِّي تَطْلُبُهْ سَيُنَفَّدْ. فَهَلْ هذا مشكل؟". وأضاف مؤكدا له: "أَسِيدِي أَنْتَ هُوَّ الرّايْسْ. وَأنْتَ الِّلي تَعْرَفْ فْرَنْسَا. أُو عَنْدَكْ لَمْعَارَفْ فِيهَا. أُو حْنَا مْعَاكْ".

 
فرنسا أيام البحث عن العمل
خلال الأيام الأولى من مقامنا بفرنسا بدون شغل، كنا نقوم بواجب المساهمة في مصاريف التغذية اليومية، وكان جدول أعمالنا في الأيام والأسابيع الأولى يقتصر على قضاء جولات للتعرف على المنطقة وضبطها مشيا على الأقدام هنا وهناك، أو عبر وسيلة الميترو، وفي بعض الأحيان نمتطي سيارة الأجرة والعودة للبيت الذي استقررنا به عند إحدى السيدات صديقة (ن/م) والتي كان يعرفها جيدا...لكن مع مرور الوقت بدأت مدخرات  صندوق ماليتنا تنفذ، فانتقلنا لمرحلة ضبط وتدوين المصاريف والحسابات اليومية.
في زمن البحث عن العمل الفني بفرنسا، ـ يوضح الفنان بوشعيب الجديدي ـ كان رفيقنا الزعيم الضرورة (ن/م) يأخذنا في جولات للبحث عن عمل فني، وفي هذا السياق كُنَّا قد زرنا أحد الفنانين، وبالمناسبة اسمه مِيلُودْ نُمِيلْ والذي كان من أحسن العازفين الموسيقيين بباريس. 
عن هذا الفنان يقول بوشعيب: "كان الرجل فنانا معروفا بصفته منظّما للحفلات، ومنسقا لأعمال الفنانين والمجموعات الموسيقية كلما حل مطرب مغربي بفرنسا ويحتاج لعازفين لإحياء سهرة فنية كيفما كان نوعها وحجمها، بل كان ينظم حتى حفلات اليهود المغاربة في تلك الفترة، وإحياء المناسبات الفنية المختلفة والمتنوعة. وكان بمقدور الفنان مِيلُودْ نُمِيلْ يومئذ أن يجمع ويحضر جوقا يتكون من ستّين فردا".

 
تمارين موسيقية تكشف موهبة الفنان بوشعيب 
يروي الفنان بوشعيب الجديدي "كان اللقاء مع الفنان مِيلُودْ نُمِيلْ في بيته لأول مرة مناسبة للتعارف مع كل أفراد مجموعتنا الخمسة بفرنسا، وتحدثنا عن الفن والغناء والطرب والموسيقى، حيث تعرف على مهمة وتخصص كل عازف من فرقتنا الموسيقية، وتبادلنا معه أطراف الحديث في مجموعة من القضايا ذات الصلة بمجيئنا لفرنسا...وهكذا سيثمر بحثنا عن العمل نتيجة أولية بعد توصلنا بطلب تسجيل شريط موسيقي غنائي لفائدة أحد الأشخاص المدعو أَحْمَدْ الْوَجْدِي، بعد أن اتصل بنا لهذا الغرض شخص آخر ينحدر كذلك من مدينة وجدة اسمه فَتْحِي الْوَجْدِي، والذي كان فنانا ضابطا للإيقاع بشكل جيد على (آلة الرِّقْ)، وكان الرجل معروفا بدوره بتنظيم الحفلات والسهرات الفنية بفرنسا".
في هذا الإطار، جاءت لحظة التمرين على القطع الموسيقية المطلوب تسجيلها على الشريط، لكن لسوء الحظ، لما أنهينا التمرين تحت أنظار ومتابعة من يعنيه أمر ذات الشريط، حضر ضابط الإيقاع المسمى فَتْحِي الْوَجْدِي، وقال لنا بالحرف أمام كل أفراد المجموعة مخاطبا الزعيم الضرورة (ن/م) الذي أصرّ على أن يكون ناطقا رسميا باسم فرقتنا بالقول: 
"اسمحوا لي بكل احترام وتقدير، سأقول لكم الحقيقة المرّة. لقد قرر صاحب الشريط أن يحتفظ فقط بالفنان بوشعيب ناجد، بحكم تمكنه وإتقانه للعزف، أما باقي أفراد المجموعة فأدائهم لم يكن مقنعا بالشكل المرغوب".

فرصة تسجيل الشريط تفجر العلاقة الفنية
ببراءته المعهودة وصفاء سريرته، سارع الفنان بوشعيب ناجد للرد على هذا الرأي بالإيجاب قائلا: "نعم أقبل أن أسجل الشريط". فكان أن جاء الرد من صديقه (ن/م) الذي أعلن رفضه بالقول: "لَّا لَّا أَسِيدِي. لن تسجل معه. إما أن نشتغل جميعا ونسجل جميعا أو ننسحب من هذا العمل الفني. لن نقبل أن يشتغل فردا واحدا أو إثنين فقط. فلا يمكن نهائيا". 
في هذه اللحظة الحرجة، التفت إلى بوشعيب وقال له: "هل نسيت اتفاقنا على متن القطار كوني أنا الرئيس. وأنا من يقرر في شؤوننا نحن الخمسة؟". لكن الفنان بوشعيب ناجد لن يرضخ للقرار الأناني ـ حسب تعبيره ـ وأجاب موضحا بالقول: "نحن معطلين سي (ن/م) منذ مجيئنا لفرنسا ولم يتبقى لنا ما نصرفه. فكيف لنا أن نعيش ونضمن الاستقرار ونحن جميعا بلا شغل ونحتاج لمورد مالي لتغطية نفقات حياتنا العادية".
لم يعجب بوشعيب قرار الزعيم الضرورة (ن/م) الذي كان يريد أن يستبد بقراره المجحف في حق أفراد المجموعة التي أضحت تعاني من العطالة ومتطلبات الحياة، وفي طريقهم نحو بيت السيدة التي استضافتهم في ضواحي باريس وقع خصام ومشادات كلامية كلها تصب في محاولة إقناع (الرَّايْسْ) كونه لم يكن موفقا في قرار إبعاد الفنان بوشعيب عن أول فرصة عمل فني بفرنسا. والذي كان ينوي العمل مع صاحب الشريط ليحقق على الأقل مدخولا ماليا للإنفاق على أصدقائه أفراد المجموعة الموسيقية في بلاد الغربة. 

 
يوم طرد الفنان بوشعيب الجديدي من بيت صديقة (ن/م)
يحكي بوشعيب أنه خاطب الزعيم الضرورة (ن/م) قائلا: "إنني اعتبر مستحقات التسجيل التي سأتسلمها مقابل العمل، مدخولا يخص جميع أفراد المجموعة وليست لي وحدي لأننا نشكل فريقا متكاملا، ونحن في أمس الحاجة للمال".
لم يستطع الفنان بوشعيب ناجد إقناع صديقه الفنان (ن/م) الذي خطط لفكرة الهجرة لفرنسا بعد استغلال علاقة بوشعيب مع عامل إقليم الجديدة، رغم محاولاته الحوارية التي استمرت طيلة مشوار مسافة العودة للمنزل، مما دفعه إلى التشبث بقرار العمل واقتناص الفرصة التي جاءت بين أيديهم، ولا يمكن التفريط فيها. لكن (ن/م) هدّده بالطرد من بيت تلك السيدة التي تستضيفهم إن وافق وقام بتسجيل الشريط الموسيقي لوحده.
بعد يومين أو ثلاثة، قرر الفنان بوشعيب بعد تفكير مليّ تسجيل الشريط وهكذا كان، حيث منحه ضابط الإيقاع (عازف على الرِّقْ) فَتْحِي الْوَجْدِي ورقة مالية بقيمة 500 فرنك فرنسي أي ما يعادل حينئذ 800,00 درهم مغربية مقابل عمله الفني. وقام في نفس الوقت بنقله على متن السيارة إلى العمارة التي تقطن بها المجموعة. حسب ما أورده الفنان بوشعيب
كانت فرحة الفنان بوشعيب لا تتصور، ولم تسعه الدنيا سعادة بعد أن تسلم المبلغ المذكور، وهو عائد للبيت ففكر أن يشتري حلوة كبيرة من مَخْبَزَة حلويات كانت توجد بالقرب من الإقامة السكنية لتقديمها لأصدقائه، والاحتفال ببيت السيدة المضيفة بأول عمل فني ضمن لهم مدخولا يمكن أن يغطي نفقات الأيام القادمة في بلاد الغربة. لكنه لم يكن يعلم بما يخبأه القدر وما خطط له الزعيم (ن/م).
صعد الفنان بوشعيب مسرعا رفقة ضابط إيقاع (الرِّقْ) الفنان فَتْحِي الْوَجْدِي إلى الطابق الذي يتواجد به البيت، وطرق بابه، لكنه فوجئ بعد فتح القفل ظلت السلسلة تربط الباب بإحكام. وفي هذه اللحظة اتضح بأن الفنان (ن/م) لا يريد فتح الباب على مصراعيه ليدخل صديقه بوشعيب حيث خاطبه قائلا: "لن تدخل للبيت، انتظر سأعطيك حقيبتك ولن تعود هنا مرة أخرى. وقام بإخراج الحقيبة".
 في هذا السياق يفسر الفنان بوشعيب ناجد سبب سكوت باقي أفراد الفرقة الموسيقية وعدم تضامنهم معه كونهم تلقوا تهديدا بالطّرد خارج البيت إن هم عبّروا عن مؤازرتهم لصديقهم بوشعيب واختاروا التواري عن الأنظار والصمت داخل البيت. ورغم تدخل الفنان فَتْحِي الْوَجْدِي ومحاولة ثني (ن/م) على طرده للرجل من البيت لم يتراجع عن سلوكه وموقفه اللاإنساني. 
على هذا الأساس سيقرر الفنان بوشعيب ناجد الجديدي البحث عن مكان آخر للسكن والإقامة بعد طرده من البيت أمام أعين أعضاء الفرقة الموسيقية والبقية تأتي. يتبع