عاد موضوع الجمهوريين الإسبان الذين كانوا معتقلين بمعسكرات العمل والعقاب ببوعرفة خلال الحرب العالمية الثانية ـ وبالتحديد خلال الفترة ما بين سنة 1939 وسنة 1943ـ إلى الواجهة من جديد. ويتعلق الأمر بمئات المعتقلين الذين فروا على إثر الحرب الأهلية الإسبانية (1936ـ 1939)، فتعرضوا بشمال إفريقيا للاعتقال والتعذيب وسوء المعاملة والحرمان من أبسط الشروط الدنيا للعيش الكريم، ناهيك على الاجبار على العمل القسري لإنجاز مشروع مير نيجر Mer Niger لربط مستعمرات فرنسا الشمالية بمستعمراتها الجنوبية عبر خط السكة الحديدية العابر للصحراء Transsaharien والذي قدر طوله بأكثر من 3560 كلم.
وتجدر الإشارة إلى أنه أثناء الحرب الكونية الثانية كانت منطقة بوعرفة (شرق المغرب) تضم أخطر معسكرات الاحتجاز، وأغلبها محاذية لخط السكة الحديدية الذي كانت سلطات فيشي Vechy الموالية لألمانيا النازية تزمع إنجازه لربط شمال إفريقيا بالسينغال، وكانت هذه المعسكرات محاطة بالأسلاك الشائكة وتحت الحراسة المشددة للجنود الفرنسيين والألمان والسنيغاليين والكوم Les goumiers. ومن أهم هذه المعسكرات نذكر على وجه الخصوص معسكر العين البيضا وتامللت وفم الدفلة وعين لعراك والمنكوب، وقد كان يتواجد بها مناضلون من جنسيات مختلفة ومن ضمنهم فنانين ومهندسين وعمال وفلاحين وموظفين وأساتذة، وكان بعضهم على مستوى عال من التكوين المعرفي والسياسي.
لقد قدر بعض المؤرخين عدد المعتقلين الذين كانوا محتجزين بمعسكرات بوعرفة ب 2000 محتجزا كلهم من الذكور، وحسب تقرير متداول للصليب الأحمر فقد ضم معسكر بوعرفة لوحده 818 محتجزا منهم 694 إسبانيا و124 من جنسيات مختلفة. وهي معطيات تم تجميعها على إثر الزيار التي قام بها ممثل المنظمة إلى المنطقة بين يونيو ويوليوز1942، أي سنة تقريبا قبل تحرير المحتجزين بهذه المعسكرات، دون احتساب عدد الفارين من هذه المعسكرات نظرا لعدم قدرتهم على العمل اليدوي الشاق في ظروف مناخية صعبة (الحرارة المفرطة صيفا والبرودة القارسة شتاء)، وتدني الشروط الصحية وانتشار الأمراض والأوبئة والتعذيب وسوء المعاملة ونقص التغذية.
الموت بعيدا عن الوطن
كان المحتجزون في معسكرات بوعرفة يجبرون على العمل ب" السخرة" في ظروف قاسية، ويتعرضون للتعذيب وسوء المعاملة إذا لم ينجزوا أعمالهم في الوقت وبالشكل المطلوب، أو ينضبطوا للتعليمات الصارمة. وقد تسبب ذلك في وفاة بعض السجناء ودفنهم بالمقبرة الأوروبية وهي توجد أسفل الجبل شمال المقبرة الإسلامية. ونذكر من بين المعتقلين الذين دفنوا بهذه المقبرة على سبيل الحصر: كلاينكوف وبرينمان وديموستيري وماتاياكس وغيرهم، وقد تكفل أحفاد هذا الأخير بنقله إلى إسبانيا فيما لازالت جثامين الآخرين وغيرهم ترقد بهذه المقبرة التي كانت تعيش ظروفا مزرية: قبور مهملة بدون معالم، الأوساخ والقمامة في كل مكان، بعض القبور مهدمة أو محفورة بفعل العوامل الطبيعية والبشرية، بل الأدهى والأمر من ذلك أن المقبرة تحولت إلى فضاء للمنحرفين في ضل غياب الحارس، وانعدام الباب، وانهيار شبه كلي للسور الذي يحيط بالمقبرة.
ترميم السور الخارجي
أمام الحالة المزرية التي كانت عليها المقبرة الأوروبية، بادرت جمعية آفاق المغربية للتنمية و المواطنة للقيام ببعض الاعمال قصد ترميم المقبرة في شهر مارس 2022 بتنسيق مع المؤسسة الفرنسية Orphelin apprentis d’Auteuil، وفي هذا السياق شارك 15 متطوعا فرنسيا ومثلهم من الشباب المغاربة في بعض الأشغال التطوعية التي تضمنت بناء جدار بطول 70 مترا، والقيام بأعمال نظافة همت المقبرة الأوروبية ومحيطها، والمشاركة في حملة للتشجير في داخل ومحيط المقبرتين الأوروبية والإسلامية، وتنصيب بوابة للمقبرة الأوروبية، علاوة على تنظيم بعض الأنشطة الموازية والترفيهية التي استفاد منها الشباب من الطرفين المغربي والفرنسي. وكل هذه الأعمال حسب رئيس جمعية آفاق للتنمية والمواطنة تمت بعد استشارة السلطات الكنسية، واخبار السلطات المحلية التي باركت هذه المبادرة الإنسانية وحبذتها لأنها غيرت صورة المقبرة من القبح إلى الجمال.
مزاعم تخريب قبور اللاجئين
بعد مرور سنة تقريبا عن هذا العمل التضامني تحركت بعض الجهات في اسبانيا ومنها جمعية منتدى الذاكرة للتعبير عن غضبها لأن الترميم في نظرها لم يتقيد بمعايير ومواصفات حفظ الذاكرة. واعتبرت العمل تخريبيا واستهدف قبور الجمهوريين الإسبان، بل توجهت إلى الحكومة الإسبانية التي يرأسها بيدرو شونسيز لرفع شكاية لدى السلطات المغربية لحماية المكان (المقبرة)، على اعتبار أن المقبرة هي مكان للذاكرة، ويجب الحفاظ على معالمها، وأن أي إصلاح يجب أن يكون تحت إشراف ذوي الاختصاص من الأركيولوجيين والمؤرخين الذين بحوزتهم المعلومة التاريخية، كما طالبت السلطات الإسبانية بضرورة العمل على إعادة جثامين الجمهوريين المدفونين ببوعرفة إذا لم يتم حماية المقبرة. والأدهى في الأمر أن جمعية منتدى الذاكرة حملت السلطات المغربية مسؤولية هذا التخريب دون الاتصال بالجهات المعنية ـ جمعية آفاق للتنمية والمواطنة والمؤسسة الفرنسية الشريكة ـ لتلقي إفاداتهما حول الحيثيات، ومعرفة تفسيرها للموضوع كما أكدت مصادر متطابقة حول الموضوع.
جمعية آفاق توضح
في هذا السياق تم ربط الاتصال بالسيد محمد جبوري رئيس جمعية آفاق المغربية للتنمية والمواطنة لاستجلاء رأيه حول الموضوع الذي انتشر في بعض وسائل الإعلام الاسبانية والمغربية كالنار في الهشيم، وقد أكد استغرابه لتحرك جمعية منتدى الذاكرة الإسبانية بعد مرور سنة عن انجاز هذا المشروع، وعدم المبادرة إلى الفعل خلال فترة طويلة عانت فيها المقبرة من الإهمال. وأستطرد قائلا بأن جمعية آفاق للتنمية والمواطنة ببوعرفة أصدرت بيان حقيقة وعممته على وكالة الانباء الإسبانية والمواقع التي نشرت الموضوع، ونفى بالبات والمطلق حصول أي تدمير أو تخريب بالمقبرة الأوربية سواء لمقابر الجمهوريين الاسبان أو لغيرهم من البلدان والجنسيات والديانات المختلفة الذين يرقدون بالمقبرة الأوروبية، وأضاف أن الاعمال التي قامت بها الجمعية بتنسيق مع المؤسسة الفرنسية لم تطل معالم المقبرة بل مست فقط الجدار الخارجي، وعملية التشجير وتنظيف المقبرة من الأزبال المتراكمة وتنصيب باب لها لحمايتها من العابثين والمشردين. وأضاف الفاعل الجمعوي محمد جبوري أن المقبرة الأوروبية ببوعرفة ترتبط بالذاكرة المشتركة لمدينة بوعرفة وهي جزء من التراث الواجب العمل على حمايته. وهو نفس ما أكده الفاعل الجمعوي مصطفى بلحلومي الذي حمل السلطات المعنية ومنها وزارة الثقافة مسؤولية تهميش الإرث الإنساني بالمنطقة سواء منه المادي أو اللامادي.
وبعد...
ما من شك في أن موضوع إصلاح المقبرة الأوروبية ببوعرفة من طرف جمعية آفاق للتنمية والمواطنة والمؤسسة الفرنسية، أعاد إلى واجهة الأحداث المحلية مرة أخرى ملف اللاجئين الاسبان بالمعسكرات التي أقامتها حكومة فيشي خلال الحرب العالمية الثانية ببوعرفة، كما أحيت من جديد مأساة المئات من المعتقلين الذي مروا من هنا، وحملوا معهم ذكريات مؤلمة إلى أوطانهم بعد تحريرهم في مثل هذا الوقت من سنة 1943 (أي بعد 8 أشهر من الانزال الأمريكي ـ الإنجليزي بالدار البيضاء في إطار عملية التي تسمى بالشعلة Troche). علاوة على أن الموضوع نفض الغبار عن مأساة ستبقى وصمة عار تخز الضمير الإنساني نظرا لما حصل خلال هذه الفترة بمعسكرات "السخرة" و" العقاب" من جرائم تصنف على أنها من الجرائم ضد الإنسانية الغير قابلة للتقادم.
لكل ذلك، يجب في نظرنا ألا يمر هذا الحدث بخفي حنين، وأن نبادر جميعا بفتح نقاش واسع تشارك فيه كل الأطراف المعنية حول الذاكرة المشتركة، ونسائل أنفسنا جميعا حول ما يجب القيام به لصيانة ذاكرتنا الجماعية من الطمس والنسيان. فالقبور المهملة والمنسية بالمقبرة الأوربية ببوعرفة هي لمناضلين فروا من أوطانهم بحثا عن الأمان، فتعرضوا للاعتقال والاستغلال البشع من طرف السلطات الاستعمارية. وبعبارة أدق إنهم مناضلون ضحوا بأرواحهم من أجل القيم الإنسانية السامية، وناهضوا الأنظمة الاستبدادية الفاشية والنازية، ورفضوا طغيان وظلم الاستعمار الغاشم، ومن واجبنا ـ وهذا أضعف الإيمان ـ أن نعمل على رد الاعتبار المعنوي لهم، عبر التعريف بالقضايا التي ناضلوا من أجلها، والحرص على أن توفر لهم قبور آمنة تأويهم في نومهم الابدي، وليس في قبور منسية بدون شاهدات تعرف بهم وتحمل أسماءهم وتواريخ الازدياد والوفاة.