منير باهي: كم هو موجع هذا البتر حدّ البكاء يا صديقي توفيق

منير باهي: كم هو موجع هذا البتر حدّ البكاء يا صديقي توفيق لحظة صفاء بين الزميلين الراحل مصباح (يمينا) وباهي
اختلطت المشاعر في حفل تقديم كتاب "حليب هيفاء الطبيعي" للزميل الراحل توفيق مصباح، سكرتير تحرير المجموعة الإعلامية "الوطن الآن" و"أنفاس بريس"، وذلك يوم الثلاثاء 13 يونيو 2023، بمركب الصقلي بالدار البيضاء. حفل حضره أفراد أسرة وعائلة الراحل مصباح، وزملاؤه في المهنة إلى جانب عدد من المثقفين والمبدعين، وقد تم خلال هذا الحفل التكريمي تقديم كلمات في حق الراحل توفيق مصباح الذي رحل عنا في فورة وغمرة شبابه وعطائه، لكنه يبقى حاضرا في قلوب أسرة التحرير، ممن لفوا وشاح المحبة حول روحه في هذا اللقاء.
فيما يلي الكلمة التي ألقاها الشاعر والكاتب منير باهي، والتي عنونها ب "توفيق.. أحبك يا صديقي:

قبل ساعات من رحيلك، كتبتُ لك على صفحتي، ولم أخبر الناس حينها من تكون، فقد ألححت علي منذ اكتشاف المرض ألا أفعل، قلت لك:
الله عليك يا صديقي افتح عينيك، ورَ هذا العالمَ الصغير كم يحتاج إلى حضورك، إلى شغبك، إلى سخريتك القاسية.
بالله عليك يا رفيق الدرب أفقْ... مازلتَ لم تخبر العالم بعدُ بأنك مبدع كبير اخترتَ الظل صامتا تعفّ عند سطوع الضوء وسقوط الغنيمة. 
مازالتْ على طاولتنا أحلام تنتظرُ منا متى نرويها فتيْنع، وأفكار تترقب متى نصقلها فتلمع، وحكايات بدأنا معا سردَها، وتحتاج إلينا معا كي ننهيها.
أفِقْ يا صديقي لأخبرك كم أعزّك جدا وما أخبرتك، وكم أنت طيب وكريم وصادق ومبدع وصاحب روح إنسانية عالية...
أفِقْ يا رفيقي، وأعدُك بأني لن أستفزك بالتنمر على فريقك، وسأكفّ من الآن عن السخرية منه ومن تاريخه ومن رئيسه... فقط عد إلينا، لأصدّق أن هذه الحياة تستحق كل ذلك القلق الذي عشناه، والحلم الذي ربيناه... 
أرجوك يا صديقي، سنعتبر هذه الغيبوبة هروبا مؤقتا منا ومن حياتنا كي ترتاح قليلا، وحتما ستعود، ستعود يا صديقي أقوى مما كنت، لأن على طاولتنا حكايات بدأنا معا سردَها، وتحتاج إلينا معا كي ننهيها. 
خاطبتك وأنا أفترض يقينا بأنك تسمعني، لا يمكن لروحك الهائلة أن تُحتجز في جسد محتجز في غرفة. ربما سمعتني ولم تستجب، فقد كان لك مخطط لم تخبرني به هذه المرة، كنت عازما على الرحيل وإن أظهرت عزما قويا على البقاء، كنت على موعد مع الموت، وإن كنت في حديثك على فراش المرض ترتب لنا مواعيد في الحياة، فرحلت. هكذا بكل بساطة رحلت، وبعد أيام قليلة جدا من رحيلك، كتبت مجددا على صفحتي:
آه يا صديقي... ياه يا توفيق!
منذ رحلتَ وإلى الآن، صرتُ أخاف أن أبقى وحدي، إذ كلما وجدتُني وحيدا أشعر بأن جزء عظيما مني قد بُتِر، وكم هو موجع هذا البتر حدّ البكاء.
أبكي وحدي بالليل، ويشاطرني من في البيت البكاءَ حين يصلُهم من خلف الباب صوتُ النحيب.
أستسمح يا صديقي...
أنا مضطر الآن إلى مواصلة الحياة كما لو كنتَ ما تزال هنا...
سأكفّ عن الحزن، وسأقاوم هذا الشعور المريع بالفقد، وستفجّر ذكرياتُنا الجميلة ضحكاتٍ بدل الدموع.
سأعودُ إلى حياتي كعائد من ساحة حرب؛ يدٌ مبتورة ووجهٌ يضحك.
في أمان الله أيها العزيز. 
كتبتُها وأنا فعلا أتوقع أتمنى أستعد لأتعايش مع رحيلك، أن أتذكرك فأترحم عليك ككل الأعزاء الذين رحلوا ولا أبكي... لكن أعترف بأنني فشلت، صرت في ليال متفرقة تزورني في المنام، والله كما أنت، تأتيني في كل مرة قادما من السماء، في زيارة قصيرة إلى الحياة، سألتك مرة عن الأحوال هناك، فأجبتني بملامح هادئة بأن كل شيء بخير، فقط مستاء من غياب الأوراق والأقلام. والله هكذا أجبتني.
وكلما استيقظتُ من حلم غرقت في حزن، واستسلمتُ للأسئلة المرعبة عن حقيقة هذه الحياة.
قد أموت يوما ما كما أنت ولا تتوقف الحياة ولا تتغير، قد أموت دون أن تكافئني الحياة على صبري وطموحي وموهبتي وتضحياتي، دون أن أرى الأحلام التي عشتُ أرسمها بالدم والعرق والدموع تتحقق، دون أن أستعيد حقوقا كنت أراها حقوقي وتمتع بها آخرون.
أعترف يا صديقي بأنني كلما رأيت صورتك اسمك أوراقك رسائلك تنفجر أعماقي بالبكاء. ولن أخبر الناس بما كان يجمعنا أكثر من ثلاث وثلاثين سنة، ولا كيف يجمعنا. ليس لأنني لا أريد، ولكن لأنني لا أستطيع، لا الوقت يكفي، ولا اللغة تقدر.
كنا متناقضين حتى التكامل.
ولهذا هربت جبنا من كل ما يذكّرني بك، فلم أجد الصلابة الكافية التي تجعلني في حضرة سيرتك ولا أنهار. واليوم ربما... اليوم حين ترى ما كنت تنتظر أن تراه في حياتك، سيتغير هذا الشعور. فربما كان يؤلمني أنك لم تُنصف ككاتب حقيقي، كقاص مختلف، كمبدع نقي ساخر يتنمر على كل شيء... وعلى الوداد خاصة، وهذا كان شكلا آخر من أشكال التناقض الصارخ بيننا.
توفيق يا صديقي... لم يكن ممكنا أن أقول لك وأنت هنا: أحبك، والآن أقولها دون خجل أو تردد: أحبك يا صديقي.