أجازت لنا صفحات التاريخ الإطلاع على رموز الحركة الوطنية المغربية، واستقراء خطها الكفاحي، وتضحياتها البطولية، واستلهام العبق النضالي الوطني من عناوينها البارزة، هي أعلام فرضت على الأقلام "التأريخية" الوقوف عندها بإسهاب، وتضمين منجزاتها الوطنية، لكن، وفي خضم ما نعيشه من "ورطة فكرية'' وتأزم حقيقي للمناخ الثقافي، تغيب عن ساحته الرموز والمثل الحقيقية، أو بمعنى أخر تتقلص مساحتها في الْمِخْيَالِ الجمعي، في مقابل توسع نماذج أخرى، تشرئب لها الأعناق، وتدين لها رقبة الشهرة على صفحات التواصل، ومساحات النقاش الاجتماعي.
يستحضر المغاربة كل سنة، ذكرى غالية على قلوبهم، متأصلة في وجدانهم، وهي ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، بوصفها محطة بارزة في تاريخ التحرر والإنعتاق من ربقة الاستعمار الفرنسي - أو ما يصطلح عليه سياسيا بالحماية الفرنسية - و خلع جبته الإمبريالية عن جسد المغرب.
ويحضر مع هذا الإستحضار في وعي كل متأمل، رموزا وشخصيات بارزة، طبعت المخيال المغربي، ووسمت حركته النضالية، وفي خضم نشوة الاحتفال بهذه الذكرى، يحضر اسم "مليكة الفاسي" وهي بالمناسبة المرأة الوحيدة التي وقعت على وثيقة المطالبة بالاستقلال.
إن المكافئ الموضوعي لذكر "مليكة" ليس تأريخا فقط، أو اعترافا بما أغدقت من موفور التضحية، وعظيم التصلب في الموقف، والوطنية العالية، وإنما حديثنا عنها من زاوية أخرى، يسلط الضوء على مسارها السياسي عموما، إذ كانت السيدة "مليكة" سليلة أسرة فاسية، معروفة بالنضال، مألوفة بالدفاع عن رموز الوطن، واستنكار نير الاستعمار، إضافة إلى كونها زوجة "محمد غالي الفاسي" وهو المناضل الاستقلالي الذي شغل منصب أول وزير للتعليم بالمغرب بعد الاستقلال، إضافة لكونها شغلت منصب رئيسة جمعية مواساة ذات البعد الاجتماعي والإنساني خدمة لنساء الوطن.
ما يميز السيدة مليكة أيضا، أنها ناضلت من داخل البنية السياسية القائمة، واستطاعت تحقيق مكتسبات غاية في الأهمية بالنسبة للنساء، على اعتبار أنها أول امرأة مغربية مارست "فعل الصحافة" كتابة و نشرا، وإن تحت غطاء اسم مستعار وهو (باحثة الحضارة)، فضلا على كونها استماتت عن حق الفتيات في الدراسة، إلى أن أُفتتح فرع خاص لهن بجامعة القرويين، إلى جانب كونها من أوائل النساء المغربيات حصولا على رخصة قيادة السيارة من قبيل الاستقلال بقليل.
استطاعت "مليكة الفاسي" بفضل ايمانها العميق، بوجاهة النضال، ومنطق الكفاح، أن تكتب اسمها بمداد الفخر والاعتزاز في سطور الحركة الوطنية، كما يحسب لها أيضا، رفضها الإستوزار في حكومة عبد الله ابراهيم، وتكريس وقتها للتربية، إضافة إلى قوتها الاقتراحية التي طالبت بضمان المشاركة السياسية للمرأة المغربية من باب الحق في التصويت، وذلك ما كان بعد فترة من تقديمها لمذكرة في هذا الشأن للمغفور له الملك محمد الخامس.
كل ما سبق، جعل من "مليكة الفاسي" نبراسا منيرا، يضيء مسجور الوعي التاريخي، ويكشف خبايا أعلام لم تنل من الأضواء ما نالته أخرى لأسباب يطول شرحها، ومع ذلك تبقى رموزا في الوفاء للقضية الوطنية، والكفاح ضد المستعمر الفرنسي، من مليكة الفاسي في فاس والرباط، إلى حمان الفطواكي في دمنات ومراكش، هي أعلام حقٔ للمغاربة الافتخار بها.
يقودنا الحديث في الأخير إلى طرح جملة من التساؤلات الموضوعية من قبيل:
أليست "مليكة الفاسي'' أحقّ بالشهرة من غيرها؟ أو ربما كانت تحتاج – في عصرها – لقناة "يوتيبية" تصور وتؤرّخ من خلالها "روتينها" النضالي دفاعا عن بنات حواء؟