كان الأولى أن أحتفي بوداد الأمة وبالمنجز الباهر الذي لم يتوقعه أكثر الوداديين تفاؤلا!
كان من الممكن أن أنتشي بالأداء المنعش والربيعي لمنتخب ما دون 17 سنة، وأضمن لنفسي وللقراء لحظات سعادة ونقرات "كلافيي" تكاد تكون مثل حبات المطر أو شظايا ألماسية..
أعترف أكثر : كان الأولى أن أنبش في الجرح العربي الكبير وأعلق على مخرجات الجامعة العربية والمركز الواضح للمغرب في صناعة قراراتها!
ولربما كان الأولى أن أفرد عمود اليوم للتعيينات الأخيرة، والتي همت مناصب استراتيجية، حددها الدستور، وفيها إغراءات مؤسساتية مثيرة للشهية حقا من قبيل تعميم مأسسة التعيين ( الإنزال بواسطة الشبكات بالفرنسية cooptation )، ومخرجات دستور 2011، والذي عمل من أجل أن تكون الانتخابات آلية تُسهل عقلنة التعيين من أعلى.. والتمحيص في مقولة محمد الطوزي: التعيين لم يقتل (ماهو) السياسي Le politique ، لكن ثم لكن …
لعلها لوثة الخيال السينمائي هي التي فعلت فعلها فرأيتُني مأخوذا بقصة طبيبة التوليد، التي تم اعتقالها في ملف المتهم محمد مبديع المعتقل على ذمة الفساد.
تساءلت: ما الذي تفعله طبيبة توليد، في قصة شهادة طبية للمتهم حتى يتهرب من الحضور أمام الفرقة الوطنية قصد التحقيق معه في ملفات التهم الموجهة إليه؟
الأكيد أن أول ما تبادر للذهن كان هو الاستغراب المسكون بغير قليل من الذهول: ما هو نوع الشهادة التي سلمتها الطبيبة، وهي اختصاصية توليد، إلى المتهم كي يبرر بها غيابه؟
تساءلت غير مصدق: هل كتبت مثلا أنه في شهره الثامن … من المسؤولية الناجمة عن انتخابات شتنبر ؟
أم أن الطبيبة رأت في ما يرى الاختصاصي بأنه قادر "على توليد" الثروة من اللاشيء؟
أم تراه "أجهض" تجربة الديموقراطية المحلية بعد أن حملتها البلاد لثلاثين سنة؟
ولعل الطبيبة ترى ما لا نراه، فكان أن السيد مبديع، في تقديرها، مسؤول عن "حمل كاذب" بالرغم من "المخاض" الديموقراطي الطويل!
ثم قلت إنها سهلت له الحصول عليها من طبيب آخر: فأين هو يا ترى؟
هل هو طبيب التخدير؟
هل كان المتهم يحتاج عملية جراحية يلزمها"مول البنج" ؟
لا لست أدري، بل هي تداعيات استسلمت لها.
وللقارئ أن يسأل : هل وصف أعراض الفساد بالسخرية يفيد الديموقراطية وسلطة القضاء؟
كلا، لكني أعترف: نعم طرأت علي السخرية لأنني شبه مقتنع أن هناك نوعا من أنواع الفساد الذي لا تجدي فيه الجدية وحدها: جدية السلطات العمومية وجدية القضاة وجدية فريق البحث، ولا بد له من طرافة وغير قليل من توابل السخرية كي يستقيم … الوجع!
طبعا، لست من الذين يعتبرون بأن المنتخبين هم أضعف نقطة في شبكات صناعة النخب، وأن العدالة تقتضي جر الكثير من المسؤولين الكبار، الذين وردت أسماؤهم في قوائم المجلس الأعلى للحسابات وفي غيره من مؤسسات الحكامة إلى القضاء. والمساواة بين الفاسد في كل مظاهره أمام القانون..
ولست من الذين يعتبرون بأن الذين يتحكمون في أزيد من 90 ٪ من ميزانية الدولة كلهم من الملائكة المكرمين، وأن المنتخبين بكل أصنافهم الذين يتحكمون في أقل من 10 ٪ من هذه الميزانية، كلهم في عداد المتهمين بل من عتاة الفاسدين فقط !
أومن مع حزبي بأن المنتخب ليس الجدار القصير، ومن الظلم"الديموقراطي" أن يتم تلطيخ رجال ونساء الديموقراطية التمثيلية، وكثير منهم نموذج الأخلاق العالية في التدبير، وعدم الإثراء غير المشروع…
أبدا، أنا في هذه النازلة أستعير كلام جدتي رحمها الله :"لَهْلا يْخَيَّرْنا فْ ضْرار"!
وأتحدث من موقع المناضل الذي يؤمن بما يعرفه الدستورانيون والمناضلون البسطاء مثله، أن الانتخابات هي التعبير عن السيادة الوطنية المجسدة في فئة السياسيين، وبالتالي يشعرون بأن من واجبهم الشعور بالخوف من الفاسدين الذين سمموها، ولو كانوا قلة .. ويعرفون بأنها قد تغيرت معانيها منذ دستور 2011 ، والذي جعل لها إكراها مزدوجا : الملك مطالب باحترام نتائجها في تعيين رئيس الحكومة والسياسيون لا يمكنهم الوصول إلى مصادر السلطة والقرار والموارد المالية أيضا …إلا عبرها!
وإذا كنا نطالب بالفضح "الديموقراطي" للذين مثلنا يحتكمون إلى الصناديق فهناك أيضا مطالبنا برفض التستر التقنوقراطي على الذين يوجدون في "القسمة " الأكبر من الميزانية العامة للبلاد…
طبعا كل هذا وغيره من الطبيعيات عندي، ومع ذلك: ما الذي دفع طبيبة توليد أن تتماهى مع برلماني ورئيس جماعة متهم بالفساد وتسلمه أو تسهل له شهادة طبية توحي بأنه كان يتابع العلاج عندها في قضايا النفاس والحمل وما يعرفه "الجينولوكوجيون"؟